الجمعة، 6 مايو 2011

تفسير الجريمة والعقوبة في العصور القديمة:

تعود أقرب مرحلة تتوفر خلالها أدلة علمية على شكل حياة الإنسان إلى العصر الحجري(1)، فخلال تلك المرحلة عاش الإنسان حياة خوف وصراع من أجل البقاء في بيئة لا يبقى فيها إلا الأقوى والأكثر شراسة من البشر والحيوانات على حد سواء. حينها كان الإنسان والحيوان يمثل كل واحد منهما غذاءً للآخر وخطرا على الآخر، فالقتل كان من الأعمال التي توفر العيش لكليهما يأتيانه بالغريزة، ويعتقد العلماء أن طابع العنف هذا موجود حتى فيما بين البشر أنفسهم؛ لأن قسوة الحياة ووحشيتها جعلت كل فرد يعتقد أن بقاءه يعتمد على فناء الآخر. وتحت وطأة هذه الخصائص المتوحشة وما تعج به الطبيعة من ظواهر مهلكة تميزت الحياة الاجتماعية الأولى بالاندفاع الشديد نحو الميتافيزيقيا الخرافية، وتمجيد القسوة والعنف، وهذا ما يفسر اقتصار التجريم في المجتمعات البدائية الأولى بعد أن نشأ فيها نوع من أنواع السلطة على ثلاثة أنماط سلوكية هي:
·                الخروج عن طاعة السلطة.(2)
·                انتهاك حرمة رابطة الدم بزنا المحارم.
·                الخروج عن الطقوس والمعتقدات السائدة.
فالمجتمع لم يكن خاليا من الأفعال الإجرامية الأخرى كالقتل والسرقة غير أن بدائية الحياة وقسوتها أبقيا هذين الفعلين وغيرهما من ضروب العدوان خارج نطاق التجريم لزمن طويل، أو هي جرائم بسيطة في أحسن الأحوال. أما تفسير الجريمة فلا يوجد ما يشير إلى أي اهتمام لدى إنسان العصر الحجري بتفسير علة الجريمة، وبالتالي فقد كان تفسير العقاب غائبا أيضا، فرد الفعل يأتي من جنس الاعتداء، وفي الوقت نفسه.
ولما كان أي تجمع يفرز بالضرورة سلطة ما، فإن السلطة التي ظهرت في بداية تشكل المجتمع خلال المراحل المتأخرة من العصر الحجري أو بعده كانت معبرة عن كل هذه الظروف ومرتكزة عليها فالخرافة والقسوة والعنف هي التي تقيم السلطة وتمنحها الشرعية.
وبفضل الخصائص التي ميز الله تعالى بها الإنسان استطاع أن يحقق تقدما مستمرا باتجاه مزيد من التجمع والاستقرار، فظهرت الملْكية الجماعية وفكرة الملْكية الفردية، وازداد عداد الأسر واتسعت الروابط القرابية والعلاقات الاجتماعية، وبدأ الإنسان في ابتكار الآلات من الخامات المتوفرة له كالحجارة والخشب، وصاحب هذا التغير الكمي تغير نوعي في الأفكار والمعتقدات أدى إلى ظهور مرتكزات جديدة للسلطة، دينية وأسرية وعشائرية وقبلية، وشيئا فشيئا حتى بدأت الحضارات القديمة تتشكل في الألف الخامسة قبل الميلاد، وتحولت السلطة إلى سلطة مركزية تهيمن على الجميع بالتزامن مع اتساع نطاق التجريم ليشمل عددا أكبر من الأفعال.
أدى هذا الازدياد في عدد الأفعال المجرَّمة إلى استحالة مواجهة الخارجين على نطاق التجريم من قبل صاحب السلطة بمفرده، الأمر الذي دفع البابليين وقدماء المصريين إلى سن قوانين تتضمن أنواع الجرائم وعقوباتها، وصياغة بعض القواعد المنظمة للاتهام والتحقيق القضائي والمحاكمة، ومن ثم قيام الملك بتفويض كثير من أعمال القضاء لمن ينوب عنه. ولا شك أن هذا يمثل قفزة تطورية مهمة في تاريخ البشـرية لولا أن الســلطة ظلت تبارك تخلف المجتمع ومعالجة الجريمة في إطار الميتافيزيقيا الخرافية.(3)
من الواضح أنه كلما تقدمت الحياة الاجتماعية نحو مزيد من الاستقرار كلما أصبح الإنسان أكثر تنظيما، فخلال مرحلة ليست بعيدة عن نهاية العصر الحجري الحديث نشأت حضارة بابل التي ظهرت في إحدى فتراتها مدونة حمورابي سنة 1875 ق. م، وعلى الرغم من أن هذه المدونة لم تكن الوحيدة في مجال الجريمة والعقاب خلال تلك الحقبة(4)، فإنها تعد أول مدونة فقهية مكتوبة ذات أهداف اجتماعية محددة، وإجراءات وتعليمات تفصيلية دقيقة في تعيين حقوق الأفراد وواجباتهم، فهذه المدونة، على سبيل المثال، قد حرَّمت الانتقام الشخصي من الجاني، وكفلت حقوق كل من الجاني والمجني عليه، وكفلت كذلك حماية الضعيف من القوي، والتزمت بالقصاص وفق مبدأ العين بالعين والسن بالسن.
وإذا ما أجرينا مقارنة بسيطة بين هذه المدونة وبين القانون الإنجليزي فسنجد أنها لم تكتف بالعقاب البدني، بل تُعاقب على غالبية الجرائم بالغرامة أو التعويض، ولم تكن تعاقب بالموت كعقوبة بدنية إلا على (37) جريمة، بينما يعاقب القانون الإنجليزي في عام 1780م بالموت إزاء (350) جريمة. ولو أجرينا المقارنة نفسها بين مدونة حمورابي والديانة اليهودية التي جاءت بعدها وجدنا بينهما تشابها شديدا، فقد تضمنت الديانة اليهودية مبدأ القصاص على النحو الموجود في مدونة حمورابي، كما أن الديانة اليهودية تعاقب على جريمة الاعتداء على النفس، وجريمة عقوق الوالدين، وجريمة السرقة، وجريمة الزنا واللواط، بالقتل وبتر الأعضاء والجلد والرجم، وتُنْزل عقوبة القتل إزاء الجرائم الدينية كالردة والكفر، وقد كان لهذه العقوبات هدف اجتماعي في كلا الشريعتين يتمثل في إرضاء المجني عليه وذويه وأولياء الدم، وزاد في اليهودية الهدف الديني.
ورغم هذا التشابه بين مدونة حمورابي والديانة اليهودية في مجال العقوبات فإنهما تختلفان في المصدر، فمصدر مدونة حمورابي هو الجهد البشري لأن حمورابي لم يقل بأنها أوحيت إليه من الله تعالى ولذلك لم تغلب عليها الصبغة الدينية الصرفة، وهذا ما يجعلها قريبة الشبة بالقوانين الوضعية المعاصرة، أما الشريعة اليهودية فهي ذات صبغة دينية بحتة لكونها تتشكل - في صورتها الصحيحة - من وصايا نزلت من الله تعالى على نبيه موسى عليه السلام لفظا ومعنا، وقد كانت مصدرا أساسيا للعقوبات التي طبقت فيما بعد في أوربا إبان العصور الوسطى.

وحين جاءت الحضارة الإغريقية كان الإنسان قد وصل إلى مستوى أكثر شغفا بالتفكير فزاد الاهتمام بتفسير الجريمة، لكن هذا التفسير لم يخرج عن إطار الثقافة الطوطمية التي كانت سائدة في المجتمع الإغريقي(4)، وموروثه من ثقافة الحضارات السابقة، فقد كان تفسير السلوك الإجرامي عند الإغريقيين ينبثق من أسس خرافية (Mythology)  فالجريمة عندهم تنتج بسبب دخول أرواح خفية شريرة إلى جسم الفرد، وتأمره بمعصية طوطم معين من خلال قيامه بفعل إجرامي، وكذلك بسبب وجود قوى شريرة تتحكم في الكون، وتعمل على أذى الإنسان بإحداث الكوارث الطبيعية كالعواصف والفيضانات والزلازل والبراكين، وتسخير أشخاص من البشر للقيام بأفعال الشرور والإجرام، ويرى قدماء الإغريق أيضا أن الطبيعة والجريمة محكومة بمشيئة الآلهة وأن المجرم ما هو إلا شخص أصيب بلعنة الآلهة، ولم يكن هذا الاعتقاد دينيا فحسب، بل نجده أيضا في فكر أفلاطون (Plato, 427-347. B. C) حين عزا الجريمة إلى قدرات الشيطان الخارقة التي يوجهها لإجبار بعض الأشخاص على اقتراف الأفعال الإجرامية، وهذا الرأي وما على شاكلته هو السبب الذي أدى إلى استمرار العقوبات البدنية القاسية ذات الطابع الانتقامي حتى في أوج الحضارة الإغريقية، كالقتل البطيء من خلال تقطيع أجزاء الجسم بالتدريج، والتعريض للوحوش، والجلد والتعذيب لاستخراج الأرواح الشريرة من جسد المذنب.
تدرج رد الفعل الانتقامي هذا في ثلاث مراحل بدأت بالانتقام الفردي عندما كان المجتمع يتكون من مستعمرات صغيرة تضم عددا من الأسر، وكانت السلطة في كل أسرة بيد كبيرها، حين ذاك كان المجني عليه ينتقم لنفسه بنفسه. وحين أصبح المجتمع يتكون من وحدات أكبر هي العشائر التي تتشكل إثر اتحاد مجموعة من الأسر، ظهرت المرحلة الثانية وهي الانتقام الجماعي أو الانتقام تحت إشراف الجماعة. أما المرحلة الثالثة والمسماة بالانتقام الديني فقد ظهرت بعد أن نجحت العشيرة في استقطاب أو ضم أسر وعشائر أخرى لتشكل ما يسمى بالقبيلة وهنا أصبح لكل قبيلة آلهتها وطقوسها ليدخل المعتقد الديني كعامل رئيس في تحديد نوع العقاب وأسلوب تنفيذه، إذ كانت السلطة، سواء السلطة الفردية كزعيم العشيرة أو القبيلة، أم السلطة المركزية (السياسية) بعد أن تشكلت الدولة، تقوم بتوجيه الشعور الديني، وتصدر أحكامها العقابية الانتقامية في قالب ديني لإرضاء الآلهة والسيطرة على مشاعر العامة وتوجهاتهم.
وقد استند الانتقام الديني إلى مدخلين في سبب الجريمة: مدخل الإغواء أو الإغراءات الشيطانية الداخلية للجاني (Temptation)، ومدخل تلبس أو استحواذ الشيطان على جسد الجاني بالكامل (Possession)، وبالتالي فإن السلطة لا تميز في عقوباتها بين جريمة وأخرى، فالمواجهة تكون مع الشيطان القابع في هذا الجسد. وتعتمد السلطة في هذه المواجهة على الطقوس الخرافية والعقوبات البدنية القاسية مثل الضرب والفصد والكي على مواضع معينة من جسد الجاني لإخراج الشيطان والجن وتطهير الجسم من المس والتلبس، إلى غير ذلك من العقوبات البدنية التي في الغالب تؤدي إلى قتل الجاني بطريقة وحشية. (5)
من الواضح أن الانتقام في المرحلة الأولى كان يعتمد على عامل القوة والقدرة الفردية للمجني عليه على الانتقام، مما يجعل الغلبة لعامل العنف، وهو عامل أو وسيلة واحدة في ارتكاب العمل الإجرامي أورد الفعل عليه، وطبيعي أن يزداد عدد الأفعال الإجرامية في أي مجتمع إذا تساوت فيه وسيلة ارتكاب الجريمة ووسيلة الرد عليها.
أما المرحلة الثانية فمن المتوقع أنها كانت أخف مراحل الانتقام قسوة على الجناة، لأن اشتراك الجماعة في النظر لا بد أن ينضوي على شيء من التداول أو الشورى من شأنه إزاحة قدر من التسلط الفردي والقسوة في الانتقام كما وكيفا، هذا إذا ما كانت الجماعة تتحلى بقدر كاف من التعقل والوعي.
وتمثل المرحلة الثالثة نكسة أو ارتدادا لفكر الجماعة إلى الفكر الفردي في العقاب، لأنها جمعت بين المعتقدات الخرافية الوثنية والتعسف الفردي في العقاب، الأمر الذي يؤهلها لأن تكون من أسوأ المراحل التي عانى منها المذنبون والبشر بشكل عام عبر العصور.
وعلى الرغم من الحالة العقلية الأفضل التي كان قد وصل إليها الإغريقيون في أواخر حضارتهم، وعلى الرغم كذلك من مرور العقاب بهذه المراحل الثلاث، فإن العقاب ظل يتميز بالقسوة والوحشية(6)، فقد استخدم الإغريقيون المحدثون جميع العقوبات البدنية التي كانت موجودة قبلهم، وزادوا عليها ما ابتكروه من عقوبات، فأصبحت العقوبات لديهم أكثر عددا مما كانت عليه، كدفن الجاني حيا، أو تقطيع أوصاله، أو محاكمته بالتعذيب (Trial by Ordeal) على اعتبار أن المتهم البريء لن يحس بالألم(7)، أو إغراقه في الماء، أو سلخ جلده، أو صلبه حيا، أو قطع رأسه، أو شطر جسمه إلى نصفين بواسطة خيول تجري في اتجاهين متعاكسين، أو حرقه، أو رميه من شاهق، أو تقديمه وليمة للحيوانات المفترسة، أو تجويعه حتى الموت، هذا إلى جانب عقوبات أخرى يعدونها أقل ضررا مثل النفي، والاسترقاق، والجلد، والوصم على الجبهة، وبتر الأعضاء، وحرق كتب المفكرين، والتشهير، والسجن مع الأشغال الشاقة في المناجم والمراكب البحرية، والغرامة والتعويض، وإجبار الأحداث الجانحين على العمل ضمن الجيوش المحاربة. وفوق هذا لم تكن منزلة الناس أمام هذه العقوبات متساوية، إذ كانت العقوبة تفرض بصورة اختيارية تراعي الاعتبارات السياسية والإدارية والاقتصادية.
وإذا ما اتجه الشأن إلى محاولة التعرف على أهداف العقاب لدى حضارات العصور القديمة بعامة، فسنجدها منحصرة في الانتقام والتشفي، حيث كان العقاب يأخذ شكل الانتقام الفردي عندما كان المجني عليه ينتقم لنفسه بنفسه، ثم اضطلعت السلطة بمهمة الانتقام هذه فيما بعد فأصبح المجتمع ينتقم للمجني عليه وينتقم للآلهة أو القداسة الطوطمية (Totemism) وفي كل الأحوال فقد كانت نزعة الانتقام والتشفي والثأر والإيلام تهيمن على العقاب سواء كانت السلطة في يد كبير الأسرة أم زعيم القبيلة، أم في يد سلطة مركزية(8).
إن هذا التشابه في طبيعة العقوبة وأهدافها لدى تلك الحضارات لا يعني أنها حضارات ذات ثقافة واحدة، بل هي مختلفة في هذا الجانب كثيرا منذ بدء نشوئها، ليس فقط بين حضارتين مختلفتين كالفرس والإغريق، مثلا، بل بين المجتمعات التي تنتمي إلى أمة واحدة أيضا، ويمثل مجتمعا إسبرطة وأثينا في القرن العاشر قبل الميلاد شاهدا على هذا التمايز والاختلاف الثقافي بين مجتمعين من الأمة الإغريقية متجاورين  ومتزامنين، فقد كان لإسبرطة نظام تربوي يهدف إلى خلق جيل محارب يضمن لها التفوق العسكري، فكانت نتيجة هذه التربية العسكرية ظهور أجيال فاشلة عرف أفرادها بتدني القدرة على التفكير والتخيل، فأجدب التراث الفكري في مجتمع إسبرطة، وانهارت القيم الإنسانية لدى الأفراد وأصبحوا كالقطعان توجههم السلطة لتحقيق أغراضها، وعندما حلت أحداث تحتم على الفرد الواحد منهم أن يفكر لنفسه وجد نفسه عاجزا.
أما أثينا فقد كان لها نظام تربوي سعى إلى بناء قوة الجسم وقوة العقل في أفراد المجتمع، فاهتمت التربية بالأسرة كاهتمامها بتعليم القراءة والكتابة، واهتمت كذلك بالفنون المعروفة آنذاك قدر اهتمامها بالتربية البدنية، واهتمت بتلبية حاجات الأفراد قدر اهتمامها بإنزال العقاب بالمجرمين، وسمحت للعقول بالانطلاق في التفكير الفيزيقي النافع، فقدم هذا المجتمع وتربيته النموذج الأول للديمقراطية نظريا وعمليا، وأنتجت هذه التربية سقراط وأفلاطون وأرسطو، وظهرت فيها أولى بوادر الاهتمام بتفسير السلوك الإجرامي، واستطاعت هذه التربية أن تحول الدولة وسلطاتها إلى خدمة المجتمع بأكمله وليس العكس.
لكن من الواضح أن السلطة في أثينا لم تتخذ القرار بشأن السماح لهذه التغيرات الإيجابية بالولوج إلى النظام العقابي وتغييره أو تحسينه والدفع به باتجاه العقوبات الخالية من القسوة، والنزيهة عن هدف الانتقام والإيلام البدني والتنكيل بالجناة، فتكون صور العقاب وسياساته أكثر إنسانية في أثينا وغيرها من المجتمعات التي لها حالات مشابهة في كل العصور، وقد كان هذا هو المفترض حتى يتحقق التوازن بين أنساق المجتمع.
كما كان من المفترض أيضا حين جاءت الديانة النصرانية أن تتمكن من التأثير على النظام العقابي إيجابا، فهي تعد لدى أتباعها ديانة تسامح وعدل ومساواة ومحبة وإصلاح، وهذا يتطلب على سبيل المثال، أن يتساوى الناس أمام العقوبة وأن يصبح الإصلاح هدفا من أهدافها. وإذا افترضنا أن شيئا من ذلك قد تحقق بعد ظهور هذه الديانة ولو بدرجة ضئيلة فإنه لم يستمر إلا زمنا قصيرا وبالتحديد منذ ظهرت هذه الديانة حتى عام 476م، وهو العام الذي سقطت فيه الحضارة الإغريقية لتنشأ في أوربا مجموعة من السلطات التي تعد من أكثر السلطات طغيانا على مر التاريخ الإنساني، التي نمت معها العقوبات البدنية في صور ربما تفوق في قسوتها ووحشيتها ما عرفه الإنسان من قبل وقد استمر بعضها حتى القرن التاسع عشر.
نخلص من هذا العرض والمناقشة لتفسير الجريمة والعقاب في العصور القديمة إلى الاستنتاجات الآتية:
أولا- لم يجد العلماء أي اهتمام للإنسان بتفسير علة الجريمة قبل محاولة أفلاطون.
ثانيا- لم يظهر أي هدف للعقاب غير الانتقام من الجاني قبل شريعة حمورابي.
ثالثا- ارتبط العقاب في صورته الانتقامية بطبيعة السلطة القائمة، على النحو الآتي:
1-          الانتقام الفردي في ظل سلطة كبير الأسرة.
2-          الانتقام الجماعي في ظل سلطة زعيم العشيرة.
3-          الانتقام الديني في ظل سلطة زعيم أو رئيس القبيلة.
4-          الانتقام الديني والسياسي في ظل السلطة المركزية (نظام الدولة).   
رابعا- اتسمت العقوبات بالقسوة لدى جميع المجتمعات القديمة، إلى درجة بدا معها وكأن للعقوبة ثقافة عنف موحدة بين كل المجتمعات.
خامسا- من الواضح أن العقاب في العصور القديمة من أكثر الخصائص الثقافية استعصاء على التأثر بما حدث من تطور في ثقافة بعض المجتمعات كمجتمع أثينا، وما أتى به نبي الله عيسى عليه السلام في الديانة النصرانية من تعاليم المحبة والتسامح.
سادسا- يعود عدم التوازن بين العقوبة وما حققه المجتمع من تقدم ثقافي إلى عدم اتخاذ السلطة لقرار التغيير والتطوير في سياستها العقابية.
سابعا- يمثل عدم التوازن بين أنساق المجتمع في مستوى التطور عيبا تنظيميا تستطيع السلطة تلافيه إلى حد كبير لو أرادت ذلك.


(1)   تدل أحدث الاكتشافات على أن الإنسان كان موجودا قبل ثلاثة ملايين سنة، غير أن العلماء لم يجدوا سندا علميا مقنعا لتصور شكل الحياة التي كان يعيشها الإنسان قبل العصر الحجري الذي بدأ قبل حوالي خمسمائة ألف عام، وقد قسم العلماء ذلك العصر إلى ثلاث مراحل: العصر الحجري القديم من 500000 إلى 10000 ق.م، العصر الحجري المتوسط من 10000 إلى 7000 ق.م، العصر الحجري الحديث من 7000 إلى 3500 ق.م . ومن الجدير ذكره أن مدة العصر الحجري لم تكن متساوية عند كل المجتمعات بسبب تفاوت المجتمعات في سرعة التقدم، ومن قبيل ذلك أن مدة العصر الحجري الحديث استمرت في بعض أجزاء من أوربا حتى عام 2000 ق.م. ولمزيد من الاطلاع، أنظر: (موسوعة بهجة المعرفة. جنيف: دار المختار، 1981م، المجموعة الأولى، ج5 ص ص 34-46). 
(2)   نعني بالسلطة هنا الشخص الذي يملك إنزال العقوبة سواء كان كبير الأسرة أو زعيم المستعمرة أو العشيرة أو القبيلة.
(3)   من قبيل هذه الميتافيزيقيا الخرافية أن بعض الثقافات تعطي أهمية بالغة للشيطان بوصفه يمتلك قدرات خارقة في التأثير على كل شيء في هذا الوجود، وتعود الفكرة التي تعطي للشيطان أهمية أكثر مما هو عليه في حقيقة الأمر إلى مرحلة متقدمة في حياة الإنسان، فقد استخدم الإنسان هذه الفكرة لتفسير الظواهر التي يجهلها، فنجد مثلا أن أفلاطون تحدث عن قدرات الشيطان الخارقة على خلق الجريمة كشر أختص به، ودفع بعض الأفراد للجريمة والانحراف، وربما كانت هذه أول نظرية أو محاولة تفسيرية لعلة الجريمة، وتعرف هذه النظرية في علم الإجرام بمبحث الجن أو الشياطين (Demonology) أو الاتجاه الشيطاني (Demonological Trend)  ونجد الشيطان في الديانات القديمة ومنها اليهودية والنصرانية بمسمى (Satan) فهو في هذه الديانات يتلبس الجسد وله سلطان على الروح، ومن الناس من جعله إلها للدهر. والشيطان موجود في الدين الإسلامي كمحرض على الغواية لكنه ليس متحكما في مصائر الناس ولا في الظواهر الطبيعية كما تصوره بعض الديانات والثقافات، فهو على سبيل المثال لا يملك أي سلطان على الروح لأن الله تعالى يقول في الآية رقم (85) من سورة الإسراء: "قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" ولمزيد من الإطلاع على المكانة التي تعطيها بعض الثقافات للشيطان الرجيم في هذا المجال بالإضافة إلى المرجع الوارد في المتن، أنظر: (طالب، أحسن. 2002م، ص ص 37-40) وانظر كذلك: (إمام، إمام. 1995، ج3 ص ص 224-225).
(4)   من المدونات التي عثر عليها العلماء وتعود إلى هذه الفترة بالإضافة إلى مدونة حمورابي: مدونة حور محب التي ظهرت سنة 1330ق.م، ومدونة مانو سنة 1250ق.م، ومدونة داركون سنة 621 ق.م، وما يسمى بمدونة الإثني عشر لوحا التي ظهرت سنة 452 ق.م، ولمزيد من الاطلاع، أنظر: (أبو غدة، حسن. أحكام السجن ومعاملة السجناء في الإسلام. الكويت: دار المنار، 1987م، ص ص ).  
 (4)  ظهر تأثير الثقافة على تفسير السلوك الإجرامي في حضارة المصريين القدماء أيضا، ولا يزال مستمرا إلى اليوم في كل المجتمعات، وقد بينت الدراسات الحديثة أن أثر الثقافة لا يقتصر على موضوع تفسير السلوك الإجرامي فحسب، بل يمتد إلى الفعل الإجرامي نفسه فهي تؤثر على نوعية أو نمط الفعل الإجرامي، كما أنها تشترك مع المجتمع في دفع الفرد إلى اقتراف الجريمة، ومن المتوقع أن الثقافة ستستمر في التأثير القوي على هذين المجالين طالما وجدت تباينات ثقافية داخل المجتمع وبين مجتمع وآخر. ولمزيد من الاطلاع حول هذا الموضوع، أنظر: (الربايعة، أحمد. أثر الثقافة والمجتمع في دفع الفرد إلى ارتكاب الجرائم. الرياض: جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، 1984م).
 (5)  ظهر تأثير الثقافة على تفسير السلوك الإجرامي في حضارة المصريين القدماء أيضا، ولا يزال مستمرا إلى اليوم في كل المجتمعات، وقد بينت الدراسات الحديثة أن أثر الثقافة لا يقتصر على موضوع تفسير السلوك الإجرامي فحسب، بل يمتد إلى الفعل الإجرامي نفسه فهي تؤثر على نوعية أو نمط الفعل الإجرامي، كما أنها تشترك مع المجتمع في دفع الفرد إلى اقتراف الجريمة، ومن المتوقع أن الثقافة ستستمر في التأثير القوي على هذين المجالين طالما وجدت تباينات ثقافية داخل المجتمع وبين مجتمع وآخر. ولمزيد من الاطلاع حول هذا الموضوع، أنظر: (الربايعة، أحمد. أثر الثقافة والمجتمع في دفع الفرد إلى ارتكاب الجرائم. الرياض: جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، 1984م).
(6)   كان يفترض أن تكون كل مرحلة أفضل من سابقتها نظرا لما يحدث لدى الإنسان من تراكم للخبرات والتجارب.
(7)   كانت المحاكمة بالتعذيب شائعة عند العرب أيضا وتسمى (البَشَعَةْ) حيث يكوى المتهم بالنار على لسانه اعتقادا بأن النار لن تؤثر إلا على المذنب. ولمزيد من الاطلاع، أنظر: الوريكات، عايد عواد. نظريات علم الجريمة. عمان: دار الشروق، 2004م ص 19).
(8)   قدمت هذه المحاضرة لطلبة دكتوراه الفلسفة في العلوم الأمينة ضمن مقرر ضحايا الجريمة، وتضمنت المحاضرة التأكيد على أن أهداف العقاب هي المعايير الحاسمة التي يتم على أساسها تقويم أي نظام عقابي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق