الأربعاء، 31 أغسطس 2011

مقدمة

لحقب طويلة من الزمن خلت المجتمعات من أي معنى للعدالة الجنائية، فاتسمت العقوبات حينها بالظلم والشدة والقسوة، بل بالوحشية، وغالبا ما انحصرت أهدافها آنذاك  في إطار الانتقام من الجاني وإيلامه والتنكيل به، وكان اتجاه القسوة هذا مرتبطا، أصلا، ارتباطا قويا في نشأته واستمراره، وزواله كليا أو جزئيا بالفلسفة السائدة في المجتمع حول الجريمة نفسها، فقد كان تفسير السلوك الإجرامي يستند على مفاهيم غير عقلانية، واستتبع ذلك ظهور أنماط عقابية تعتمد بالدرجة الأولى على العقوبات البدنية، وأدى ذلك إلى معاناة شديدة للمجتمعات من العقوبات الماسة بإنسانية الإنسان والحاطة من كرامته. ومع تقدم الفكر الإنساني تغير تفسير السلوك الإجرامي باتجاه الموضوعية والعقلانية، وتبعا لذلك بدأ الفكر الإنساني يتساءل عن المنفعة من العقوبة، وهل هذه العقوبة تفيد في شيء مضى وانتهى يمثله الفعل الإجرامي؟ وهل ينبغي أن تعود هذه المنفعة على الجاني أم المجني عليه أم المجتمع ككل؟ وهل الانتقام من الجاني والتنكيل به من خلال العقوبات يحقق هذه المنفعة؟، ومن هذه النقطة على وجه التحديد ظهر مصطلح العدالة الجنائية.


وقد أجابت الشرائع السماوية – في صورتها الصحيحة - قبل الاتجاه الوضعي على هذه التساؤلات بما يؤكد دون شك أن هدف العقوبة هو إقامة شرع الله وحفظ الحقوق وتحقيق منفعة مستقبلية للفرد الجاني وللمجتمع.

وعلى المستوى الوضعي أجابت مختلف الاتجاهات الفلسفية والعلمية على هذه التساؤلات، فتشكل اتفاق تام بين كل الثقافات على أنه ينبغي أن تكون للعقوبة منفعة مستقبلية تتمثل في إصلاح الجناة ومكافحة الجريمة وليس مكافحة المجرم في حد ذاته، أي أن المجتمع في حرب على الجريمة وليس في حرب على المجرم، كما أن العقوبة في حد ذاتها، رغم ضرورتها، لا تفيد في شيء وبخاصة إذا تعلق الأمر بفعل إجرامي حدث وانتهى، فهي على سبيل المثال، لن تعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل وقوع الفعل الإجرامي، ومن هنا اكتسبت فائدة العقوبة صفتها المستقبلية، أما المستفيد من هذه المنفعة فينبغي أن يكون بالدرجة الأولى المجتمع بأسره، ثم بعد ذلك الفرد الجاني نفسه.

أما من حيث الوسيلة التي تتحقق بها المنفعة المستقبلية للعقوبة، فلا تزال مثار اختلاف وتناقض شديد، فعلى الرغم من الاتفاق التام بين المنظرين وعقلاء المجتمع وبين السياسات العقابية على أن هذه المنفعة لا تتحقق بمجرد الانتقام من الجاني، ولا التنكيل به والحط من كرامته الإنسانية، فإن المنظرين والباحثين ومخططي السياسات العقابية، لم يتفقوا بشكل تام على الوسائل المثلى الموصلة إلى هذه المنفعة، فنجد مثلا أن بعض النظم العقابية ترى أن الوسيلة المثلى لتحقيقها هي قبل كل شيء المعاملة الإنسانية للجناة (الاتجاه الإنساني في العقاب) ويتم ذلك أولا بالإقلاع عن العقوبات البدنية (Punishments Physical)، والتوجه إلى إصلاح الجاني وإعادة تأهيله، من خلال برامج علمية موجهة إلى تعديل إرادته الإجرامية، تتضمن جهودا وقائية وعلاجية وتأهيلية، وجهودا للرعاية تمتد إلى ما بعد خروجه من السجن، وجهودا لحل مشاكله الذاتية والاجتماعية التي دفعت به إلى السلوك الإجرامي. كل ذلك كي لا يعود إلى ممارسة الجريمة؛ لأن هذا هو جوهر المنفعة المستقبلية للعقوبة.

ولما كانت هذه البرامج والجهود تحتاج إلى وسيلة عقابية، تسمح بوضع الجاني في ظروف مكانية وزمانية لتنفيذها؛ فقد أصبحت عقوبة السَّجن في العصر الحديث هي العقوبة الرئيسة السائدة في كل المجتمعات، وتقترن هذه العقوبة في بعض الدول بعدد من العقوبات البدنية على اعتبار أن العقوبات البدنية لا تتعارض مع الاتجاه الإنساني في العقاب، ولا تعيق البرامج المخصصة لإصلاح الجناة وإعادة تأهيلهم كهدف من أهداف العقوبة، إضافة إلى ارتباط هذه العقوبات بالمنظور الديني الخالص.

وبغض النظر عن هذه الاختلافات فإن المنفعة المستقبلية للعقوبة تمثل إطارا عاما تنضوي ضمنه كل أهداف العقوبة العادلة، وهي غاية تسعى إليها جميع السياسات العقابية مهما اختلفت وسائلها لبلوغ هذه الغاية، فهي جميعا تتوخى من عقوباتها تحقيق أهداف اجتماعية محددة، وهذه الأهداف تكاد تكون مشتركة، ومن أهمها:

1-          حفظ المصالح العامة والخاصة، والمحددة في الشريعة الإسلامية بالنفس، والدين، والعقل، والنسل، والمال، وهذه المصالح في الأصل حاضرة في جميع السياسات العقابية وإن اختلفت صياغاتها اللفظية أو القانونية.

2-          تحقيق العدل وتثبيت التوازن  بين الحقوق والواجبات؛ لأن هذا التوازن يختل بسبب الأفعال الإجرامية، وقد يختل بصورة أكبر عند العود إلى الجريمة.

3-          حماية المجتمع نفسه بزجر الجاني وردع غيره.

4-          تقويم الجاني وإصلاحه بما يؤهله للعودة إلى الحياة السوية في الوسط الاجتماعي الطبيعي الذي يتواجد فيه.

5-          الوقاية من الجريمة، فالعقوبة إذا استطاعت إقناع الجاني نفسه بعدم العودة إلى السلوك الإجرامي نهائيا وإقناع غيره بعدم فائدة أو جدوى الجريمة، فإن غرض الوقاية قد تحقق.

العقوبة إذن تكون ذات منفعة مستقبلية بقدر ما تحققه من هذه الأهداف المستقبلية، ومما لا يرقى الشك إليه، أن العقوبة تكون ذات مضرة آنية ومستقبلية على الجاني وعلى المجتمع وأمنه واستقراره، حين تفشل في تحقيق المنفعة المستقبلية المتوخاة من ورائها. وفي المقابل فمن الطبيعي أن يتم التركيز على عقوبة بعينها عندما يتوفر ما يؤكد أنها تحقق من تلك المنفعة ما لا تستطيع أن تحققه عقوبة أخرى ذات طبيعة أخرى أو بديلة للفعل نفسه،

لقد بات في حكم المؤكد علميا الآن، أن المجتمع يسهم بشكل كبير في إفراز الظروف المناسبة لظهور الجريمة وبروز الشخصية الإجرامية، ومن هنا بات لزاما على المجتمع نفسه أن يوفر الشروط والإجراءات المناسبة لمواجهة الجريمة والدفاع عن كيانه من خلال رد فعله تجاه السلوك الإجرامي.

ورغم ما يسود المجتمعات اليوم، وبخاصة في أوساطها العلمية، من إقرار بدور المجتمع في إفراز العوامل المؤدية لظهور الجريمة والانحراف فإن المجتمعات لا زالت تختلف في ردة الفعل الرسمية وغير الرسمية تجاه الأفعال الإجرامية والانحرافية، وتختلف أيضا في مدى ما تتميز به ردة الفعل الرسمية من تقنين في إطار السياسة الجنائية للدولة، وكلما كانت ردة الفعل (العقوبة) تنبثق من الوعي بمعطيات العلم والتشريع السوي زاد ذلك من شعور أفراد المجتمع بوجود العدالة الجنائية وفاعليتها في الوقاية من الجريمة وإصلاح الجناة والمنحرفين، وعلى العكس من ذلك نجد أنه كلما كانت ردة الفعل تنبثق من الجهل بمعطيات العلم، أو تستند إلى اجتهاد القاضي في إنشاء الحكم وليس استنباطه، أو تستند إلى الأحكام التصورية لا التشريع المحكم والواضح؛ فإن العدالة الجنائي تصبح مسخا هجينا لا يخدم سوى فئة معينة من أفراد المجتمع، أو تنتفي كليا.

وعلى الرغم من هذا الاختلاف فإننا نجد أن التفكير العقلاني يقدم شواهد على أن جميع السياسات الجنائية الرسمية تسعى إلى تحقيق منفعة مستقبلية من وراء العقوبة عبر العدالة الجنائية، وتتجلى هذه المنفعة في تعديل سلوك الجناة وإيجاد حلول لمشكلاتهم وإكسابهم المهارات الأخلاقية والنفسية والاجتماعية والمهنية التي تمكنهم من العيش في حياة سوية داخل الوسط الاجتماعي الطبيعي، بغض النظر عما إذا كانت بعض هذه السياسات لا تدرك بشكل يقيني أن هذه المنفعة تشكل محورا رئيسيا في بنائها وتشكل العمود الفقري للعدالة الجنائية. والمؤكد أن السياسات الجنائية الأكثر توظيفا لمعطيات العلم والمعرفة في مجال الوقاية من الجريمة، ومجال العقوبة وإصلاح الجناة - تدرك هذه الحقيقة العلمية، "المنفعة المستقبلية للعقوبة"، بدليل أن معظم السياسات الجنائية في وقتنا الحاضر قد تخلت عن فكرة العقوبة من أجل العقوبة، أو اقتصار العقوبة على تحقيق أهداف الانتقام والثأر (Vengeance) من الجاني، وباتت تعطي للعدالة الجنائية جل اهتمامها.

ويدعم هذا التوجه الإصلاحي كون القناعة أصبحت الآن راسخة لدى القائمين على وضع السياسات الجنائية بأنه لا يمكن القضاء على الجريمة تماما مهما كانت المواجهة والمكافحة الميدانية والاحتياطات الأمنية محكمة، ومهما كانت مختلف ردود الأفعال المجتمعية تجاه الجناة وصمية وقاسية، فقد وجدت الجريمة حتى في المجتمعات التي نعمت بعهد الأنبياء والرسل، ووجدت أيضا لدى المجتمعات التي كانت لديها عقوبات مفرطة في القسوة إلى حد الوحشية، وإزاء هذه المسلمة فإن المجتمعات لا تملك سوى محاولة التقليل من أعداد الأفراد المبتدئين أو المنخرطين في الأفعال الإجرامية، من خلال سياسة وقائية بالدرجة الأولى، والتقليل من أعداد العائدين إلى الجريمة من خلال سياسة جنائية توظف معطيات العلم والمعرفة في التعامل مع الجناة وتغلبها على الأفكار التصورية والأحكام المسبقة، وتكريس العدالة الجنائية لخدمة أفراد المجتمع كافة.

يمكن القول إن السياسة الجنائية المؤطرة للعدالة الجنائية تكون قاصرة عندما تركن إلى العقوبات لوحدها في مواجهة الجريمة، وتنطلق في ممارساتها هذه من فكر يركز فقط على الفعل الإجرامي ذاته، وهو ولا شك فكر ثبت عقمه. وعلى العكس منها تأتي السياسة الجنائية المتكاملة التي وسعت من دائرة اهتمامها لتشمل الجاني أيضا، الأمر الذي جعلها تنظر إلى المستقبل عندما تعاقب، وليس فقط إلى الماضي الذي يمثله الفعل الإجرامي، وهي بهذه النظرة المستقبلية تجعل عقوباتها عقوبات إصلاحية مواكبة للتغيرات السريعة في كافة أوجه الحياة، وقابلة لاختبار فاعليتها بين وقت وآخر، وهذا الاختبار أكثر إلحاحا في المجتمعات التي تطبق أنواعا متعددة من العقوبات.

يؤدي بنا هذا إلى القول بأن المنفعة المستقبلية للعقوبة هي عماد العدالة الجنائية، ولا يمكن أن تتحقق هذه المنفعة بالنظر إلى الماضي فقط فالفعل الإجرامي يكون قد حدث وانتهى، وإنما بالنظر إلى المستقبل أيضا، وفي إطار هذه النظرة إلى المستقبل يتم انتقاء العقوبة الأكثر تجانسا وتآزرا مع البرامج الإصلاحية لتحقيق المنفعة المستقبلية للعقوبة، وهذا ما يعد ضروريا لتحقيق الأمن العام، ويعطي للعقوبة مشروعيتها، وأي عقوبة تجاوزت ذلك فهي عقوبة غير عادلة، وتصبح من قبيل الانتقام والتعسف والجور، وعندها تنتفي العدالة الجنائية.

تمهيد ومفاهيم ضرورية

تعدّ العدالة واحدة من أكثر الموضوعات قدسية وشيوعاً في السلوك الاجتماعي. ويمكن أن تتخذ وجوهاً متضاربة جداً حتى ضمن المجتمع الواحد. فأينما كان هناك أناس يريدون شيئاً، ومتى ما كانت هناك موارد يراد توزيعها، فإن العامل الجوهري المحرك لعملية اتخاذ القرار سيكون أحد وجوه العدالة. وللعدالة سيادة على غيرها من المفاهيم المقاربة، كالحرية والمساواة، ذلك أنها لا تقف عند حد معين. فقد يطالب الناس بمزيد من الحرية، وفجأة يضطرون إلى التوقف عند حد معين حتى لا تـنقلب الحرية إلى نقيضها، إلا إنهم لا يستطيعون التوقف عن محاولة أن يكونوا عادلين. ولا يستطيع أي مجتمع أن يصل إلى درجة الإشباع في تحقيق العدل، لأنه لا يوجد حد نهائي للعدالة. فالعدالة بهذا المعنى هي الخير العام الذي يستطيع تـنظيم العلاقة بين مفهومي الحرية والمساواة، إذ يكفل الموازنة بين الطرفين.
ومع ذلك، فأن الظلم رافق وجود الإنسان منذ بداياته. فقد ظهرت التفرقة بين الناس، ونشأت بالدرجة الأولى عن مفهوم المِلكية الذي يعتمد على الأنانية والمصلحة الفردية. فمنذ أن انتقل المجتمع البدائي إلى مجتمع تـنظيمي، اختفت المساواة و أُلغيت لأن جماعة من الأفراد تملكوا الأرض واستغلوا غيرهم. وبمرور الزمن صار لهم قانون يحميهم من كل عقاب، ويحافظ على مصالحهم، ويقر بشرعية الفروق المادية بين الفئات الاجتماعية. فتحولت هذه الفروق بالتدريج إلى فروق معنوية أصيلة. والواقع أن الإنسان دفع ثمناً غالياً لارتقائه إلى أشكال اجتماعية أكثر تعقيداً، إذ ترتب على المهارة وتوزيع العمل أن تغرب الإنسان وانفصل لا عن الطبيعة وحدها، بل وعن نفسه أيضاً. فأصبح النظام المعقد للمجتمع يعني أيضاً تحطيم العلاقات الإنسانية، إذ كان معنى زيادة الثروة الاجتماعية في كثير من الحالات زيادة فقر الإنسان. ورغم غياب العدالة في حقب طويلة من الزمن إلا أنه أمكن العثور على رموزاً لها في الأساطير والشعر والنحت والعمارة، بوصفها مطلباً جوهرياً يثير بشكل صارخ أو صامت أي إنسان على أساس قوة وجوده، ويعبّر في الوقت ذاته عن الشكل الذي يتحقق في إطاره ذلك الإنسان فوضع الإنسان القديم تصوراته لموضوع العدالة والظلم في صميم نظرته للآلهة والكون والإنسان. فارتبطت العدالة لديه بالنظام مثلما ارتبطت قيم الخير كلها به، وارتبط الظلم بالفوضى مثلما ارتبطت قيم الشر كلها به. ولأن الإنسان أدرك علاقة الشمس بنشاطات الحياة المختلفة، فقد عدها إلها للحق والعدل، ومزيلاً للغموض، وكاشفاً للحقائق. فإله العدالة هو إله المعرفة نفسه. لكن العدالة بهذا المفهوم ظلت أمرا مرهوناً بخدمة الإنسان للآلهة وإرضائه لها فقط. فإذا ما حصل على العدالة فذلك لأن الآلهة منّت عليه بذلك، لا لأنه يستحقها. أما فكرة ان العدالة شيء من حق كل إنسان فلم تأخذ بالتبلور إلا في الألف الثاني قبل الميلاد، وهو الألف الذي ظهرت فيه شرائع (حمورابي)، إذ يذكر هذا الملك البابلي، الذي تولى الحكم خلال المدة (1792-1750) ق.م ، في مقدمة شريعته: ( أن الآلهة أرسلته ليوطد العدل في الأرض، وليزيل الشر والفساد بين البشر، ولينهي استعباد القوي للضعيف، ولكي يعلو العدل كالشمس، وينير البلاد من أجل خير البشر، ويجعل الخير فيضاً وكثرة ). فأضحى الناس منذ ذلك العصر يشعرون أن العدالة حق مشروع لا منّة شخصية. إلا أن هذا الرأي عن كون العدالة شيء من حق كل إنسان، كان لا بد أن يناقض نظرة الناس آنذاك إلى الدنيا، فبرزت إلى الوجود مشكلات أساسية، كتبرير الموت، ومشكلة الإنسان الفاضل الذي يقاسى البلايا بالرغم من فضيلته. وكان وراء هاتين المشكلتين إحساس عميق بالألم والمأساة. فظهرت في أوائل القرن الثاني قبل الميلاد ملاحم ومدونات تعبر عن سخط مكتوم وإحساس دفين بالظلم، منشؤه الفكرة التي تبلورت آنذاك عن حقوق الإنسان والمطالبة بالعدالة في الكون. فالموت – على سبيل المثال- شر، بل هو العقاب الأكبر، فما الداعي إلى موت الإنسان إذا لم يكن قد اقترف إثماً؟.
فأصبحت هذه المشكلة الأخلاقية بعناصرها الاستفهامية والاستـنكارية والتبشيرية، نقطة انطلاق للأديان والفلسفات والإيديولوجيات التي ظهرت فيما بعد في مختلف الحضارات وحاولت الخوض في ماهية العدالة وغايتها وأساليب تحقيقها عملياً. وبالرغم من أن الناس على العموم ظلوا يقرون في كل عصر بأنهم لم يفلحوا في تحقيق العدالة بعد، إلا أنه يمكن النظر إلى التاريخ البشري بوصفه تاريخ مقاومة الظلم، وتاريخ الصراعات الدامية من أجل فرض معيار موحد للعدالة، إذ ظل الإنسان ينشد العدالة في كل زمان، مستخدماً في ذلك كل وسائله، ومنها ابسط ألفاظه وأعمق أفكاره على حد سواء. لكن هذا المعيار ظل منيعاً على التحديد أو الاتفاق.
العدالة مفهوم متعدد الأوجه.. العدالة مفهوم يكتنفه الغموض، إذ يرى البعض انه يظل تجريداً في عالم العقل لا سبيل لتطبيقه في عالم الواقع. وأن ما جري تطبيقه من العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ما هي إلا محاولات يقصد من ورائها الحفاظ على الحقوق التي أقرها القانون الطبيعي والأخلاقي. ويذهب البعض مذهباً متفائلاً بقولهم إن الطبيعة البشرية قد ارتقت عبر التاريخ، مما خلق لدى الإنسان نوعاً من الرقابة الذاتية التي تلزمه باحترام قاعدة: (عامل الآخرين بمثل ما تحب أن يعاملوك به). ومن ثم أصبح يمتلك شعوراً داخلياً بالعدل. ويتبنى آخرون موقفاً نسبياً بقولهم إن العدالة ما هي إلا تجلٍ لنفوذ الأقوياء في أي زمان. فالأفراد الأكثر قوة يصبحون أكثر نجاحاً، وفي النهاية يقنعون أنفسهم والآخرين بأن وسائلهم في تحقيق الأرباح والمحافظة على مكانتهم ليست مقبولة فحسب، ولكنها مرغوبة وأخلاقية وعادلة أيضاً.
وينظر إلى العدالة من منظورات فلسفية واجتماعية مختلفة. فهناك العدالة القائمة على فكرة الحق Right، وهناك العدالة القائمة على فكرة الخير Good. وإذا كان تحقيق مفهوم (إعطاء كل ذي حق حقه) يقوم على فكرة أن استحقاق الإنسان لحقه يعود لمجرد كونه إنساناً؛ سميت عندها العدالة بــــ (العدالة الطبيعية) Natural Justice. أما إذا كان استحقاق الإنسان لحقه يقوم على قاعدة عامة يقبلها مجتمعه؛ سميت عندها العدالة بــــ(العدالة الاتفاقية) Conventional Justice . وإذا كان هذا الحق يستند إلى قاعدة تجعل من ينتهكها مسئولا عن فعله أمام سلطة عمومية، سميت عندها بــــ (العدالة القانونية) Legal Justice وتشير (عدالة التبادل) Commutative Justice إلى تلك العلاقات التعاقدية التي تلزم كل فرد أن يعطي غيره حقه كاملاً دون التفات لقيمته الشخصية أو مكانته الاجتماعية، بينما تحكم (العدالة التوزيعية) Distributive Justice توزيع المكافآت وتعيين العقوبات، أي تحدد استحقاقات الفرد من مكافأة أو قصاص. وتعني(العدالة الاجتماعية) Social Justice نوعاً من المساواة له أهميته الجوهرية في تحقيق الصالح العام. وتتمثل (العدالة السياسية) في وجود دستور يضمن توزيع الحرية السياسية والمساواة الاجتماعية والحقوق الطبيعية. أما (العدالة الاقتصادية) Economic justiceفتتحقق إذا ما نجح النظام الاقتصادي في إشراك جميع الأفراد في الحياة الاقتصادية، وفي توزيع الثروة عليهم بحصص تتناسب مع عملهم وإسهامهم في الإنتاج العام. وتتوخى (العدالة الجنائية) Criminal Justice الدفاع عن المجتمع ضد الجريمة، وفي الوقت نفسه تقويم سلوك الجاني الذي خرج عن إطار المجتمع، مع ضمانها لحق كل متهم في أن يتمتع بمحاكمة تتيح له الحق الكامل في الدفاع عن نفسه حتى تنتهي المحاكمة إلى قرار سليم سواء بالإدانة أو بالبراءة. ويشيع أيضاً مصطلح (العدالة المطلقة) أو (الإنصاف) Equity بوصفها عدلاً طبيعياً يوجب الحكم على الأشياء بحسب روح القانون، أما العدل فيوجب الحكم عليها بحسب نص القانون.
وفي علم النفس، يستخدم مصطلح (العدالة الاجتماعية) لوصف شعور معظم الناس بوجوب أن ينال الجميع استحقاقهم على أساس حاجاتهم. أما (العدالة المتأصلة) Immanent Justice فتعني اعتقاد الطفل في سنوات حياته الأولى بوجود عقوبات تلقائية تنبثق من الأشياء بحد ذاتها. ويشير (الاعتقاد بعدالة العالم) إلى وظيفة نفسية تكيفية بالغة الأهمية، تمكّن الفرد من مواجهة بيئته المادية والاجتماعية كما لو أنها مستقرة ومنظمة، وبدون هذا الاعتقاد يصبح من الصعب على الناس أن يلزموا أنفسهم بمتابعة السلوك الاجتماعي المنظم.
تكمن في ما وراء القبول العام لقدسية الموقع الذي تتبوأه العدالة في المساعي البشرية تـناقضات ومشكلات ونزاعات حول طبيعة العدالة وجوهرها وأشكالها، سواء في الأحاديث العامة أو في العمليات النفسية. ويمكن القول أن دافع العدالة اتخذ له أربعة أنواع لم يخرج عنها طوال التأريخ البشري:
(1) عدالة الحاجات (العدالة الماركسية) Justice of Need Marxian ويتم بموجبها توزيع الموارد بين الأفراد على أساس تلبية أكثر حاجاتهم إلحاحاً، بصرف النظر عن مدخلاتهم أو أدائهم، ودون الأخذ بمبدأ التكافؤ كما هو الحال في الأسرة مثلا؛ إذ يقوم الأفراد البالغون فيها بتوزيع الموارد التي يكسبونها على الآخرين طبقاً لحاجاتهم لا لمدخلاتهم.
(2) عدالة التكافؤ Justice of Parity وتظهر هذه العدالة لدى الأفراد المنتمين إلى جماعة معينة، ممن يدركون أنفسهم بوصفهم وحدة واحدة، إذ يشترك الجميع في تقاسم المخرجات بالتساوي على أساس: (الفرد من أجل الجماعة، والجماعة من أجل الفرد).
(3) عدالة الأنصاف Justice of Equity وتبرز في مواقف الاعتماد المتبادل، كما في السوق، حيث يعمل الفرد على تحقيق التكافؤ بين مخرجاته واستثماراته.
(4) عدالة القانون Justice of Law وتعني أن العدالة ليست أكثر أو أقل مما يقرره ممثلو السلطة القانونية للمجتمع. ويمكن توظيف الأسس التي تقوم عليها أشكال العدالة الثلاثة السابقة، في تطوير القوانين وتقويمها وتعديلها. ولكن ما أن يُسن القانون، حتى يصبح المحدد الوحيد لاستحقاقات الفرد في موقف معين، بصرف النظر عن حاجاته واستثماراته ومدخلاته وآرائه.
يؤدي بنا هذا القول إلى أن التعريفات الموجزة للعدالة الجنائية بوصفها أحد أوجه العدالة الاجتماعية، لها مضامين دينية وفلسفية وسياسية واجتماعية متـنوعة، تتطلب فرزاً أكاديمياً متأنياً ودقيقاً لها على نحو متسلسل، وسنحاول الانطلاق من هذه المضامين نحو تعريف العدالة الجنائية بإيجاز.(1).








تعريف العدالة الجنائية:


يسهل تعريف المصطلح عندما يتكون اسمه من كلمة واحدة، ويصعب فيما عدى ذلك، وعند النظر إلى العدالة الجنائية نجدها تتكون من جزأين ( عدالة) و (جنائية) مما يُصعب تعريفها تعريفا متفق عليه. وقد وجدت تعريفات كثيرة لم يخل أحدها من ثغرات. وطالما نسبنا العدالة هنا إلى الجانب الجنائي على اعتبار أن هناك عدالة يمكن نسبتها إلى جوانب أخرى، كالعدالة الاجتماعية، والعدالة السياسية، إلى غير ذلك من المجالات كما سلف في التمهيد لهذا الفصل؛ فإنني أفضل ربطها هنا بالجانب الجنائي بشكل دقيق وواضح تماما على الرغم من ارتباطها بجوانب أخرى على أمل أن تتضح تلك الارتباطات في ثنايا هذه المدونة لاحقا، وتوضيح مقومات تحقيق العدالة الجنائية كذلك. وتأسيسا على ذلك كله أُعرف العدالة الجنائية بأنها:


[مجموعة القوانين الصادرة عن السلطة التشريعية المتعلقة بالجريمة، وتشمل التجريم والعقاب والإجراءات التي يجب إتباعها مع المتهم والمذنب منذ لحظة القبض عليه ثم التحقيق والمحاكمة والتنفيذ والمعاملة أثناء فترة التنفيذ حتى استيفاء العقوبة وصولا إلى إعادة الإدماج في المجتمع، وكذلك التعامل مع الضحية أو من وقع عليه الضرر الناجم عن الفعل المحظور].


ويشترط لكي تكون هذه القوانين الجنائية وتطبيقاتها عادلة أن تهدف إلى تحقيق منفعة مستقبلية من وراء العقوبة أو البديل، للجاني والضحية والمجتمع، وأن يكون أفراد المجتمع متساوون أمامها، وأن تستند إلى معطيات العلم في تفسير الجريمة والعقوبة والرعاية والإصلاح والتأهيل، ومعطيات العلم أيضا في مجال عوامل الضغط على السلوك بعامة، وعوامل السلوك الإجرامي بخاصة، وأن تساير مشاعر العدالة التي تنتظم المجتمع البشري اليوم.


تعريف المنفعة المستقبلية للعقوبة:
التعريف اللغوي:
النفع ضد الضرر، نفعه ينفعه نفعا ومنفعةً. ويقال: فلان ينتفع بكذا وكذا، ونفعت فلانا بكذا فانتفع به، وقيل ينفع الناس ولا يضر، والنفيعة والنفاعة والمنفعة اسم ما انْتُفِعَ به، واستنفعه: أي طلب نفعه. أما المستقبلية فهي نسبة هذه المنفعة إلى المستقبل، والاستقبال: مصدر من الزمان الآتي بعد الحال، والمستقبِل فاعل، والمُسْتَقْبَل: اسم الزمان الآتي بعد الحال.
ومن المعروف أن الزمن ثلاثة أقسام: الماضي الذي وقع وانتهى وأصبح حقيقة لا يمكن للإرادة الإنسانية أن تتدخل فيها إلى الحد الذي يعيد الأمور إلى ما كانت عليه تماما قبل وقوع الفعل، ويمثله هنا الفعل الإجرامي، والحاضر وهو عملية متحركة متفاعلة مبنية على نتائج أحداث الماضي إلى حد كبير، والمستقبل وهو الذي لم يحدث بعد، ومن هنا فإنه الزمن الوحيد الذي يمكن أن يتدخل فيه الإنسان بما وهبه الله تعالى من عقل قادر على التفكير، ويكون هذا التدخل بترتيب وتقنين بعض أحداث المستقبل بناء على أسس علمية كالتخطيط، والتنبؤ، والاستشراف، والإعداد.
وفي مجال السياسة الجنائية بات من المسلم به أن المنفعة المستقبلية للعقوبة لن تتحقق بقسوة العقوبات، ولا بالاعتماد على هدف الانتقام من الجناة؛ وإنما تتحقق من خلال العقوبة العقلانية الهادفة وما تتيح تطبيقه من برامج إصلاحية تجاه الجناة في إطار معاملة عقابية علمية متخصصة، وعلى هذا فإنه يمكن تعرف المنفعة المستقبلية للعقوبة بأنها: (نجاح العقوبات الجنائية في تحقيق هدف الزجر، وإتاحة الفرص للنزلاء كي يستفيدوا من البرامج الإصلاحية المعدة لتحقيق الوقاية من الجريمة، وعلاج النزلاء، وتأهيلهم، وحل مشكلاتهم، وتعديل سلوكهم، وخفض مشاعر الوصم لديهم، وإكسابهم المهارات النفسية، والاجتماعية، والمهنية التي تمكنهم من التكيف الإيجابي مع أنفسهم ومع مجتمعهم، والاستفادة كذلك من برامج الرعاية اللاحقة بعد الإفراج عنهم إلى أن يتمكنوا من سد عوزهم وكسب رزقهم بطرق مشروعة، وبالتالي الحد من عودتهم إلى الجريمة بصورة عامة، وهذا هو لب المنفعة المستقبلية لهم ولمجتمعهم من وراء العقوبات الجنائية).


تعريف العقوبة/العقاب:
كثيرا ما يطلق لفظ العقوبة على العقاب، وبالنظر إلى معنى المصطلحين في اللغة العربية وجد أنه لا فرق بينهما، فلهما المدلول نفسه، وكل واحد منهما يفسر الآخر، ولهما المعنى نفسه وهو الألم الذي يلحق بالمذنب جزاء على ذنبه في الدنيا أو الآخرة. لذلك سوف نستخدم كليهما، فإذا ما ورد ذكر أحدهما فإنه يعني الآخر ويفسره.
التعريف اللغوي للعقوبة: العقاب والمعاقبة أن تجزي الرجل بما فعل سوءا، والاسم: العقوبة، وعاقبه بذنبه معاقبة وعقابا: أخذه به، وتعقبتَ الرجل إذا أخذتَه بذنب كان منه. والعَقْبُ والمعاقِبُ: المدرك بالثأر، وأعقبه على ما صنع: جازاه. والعُقبى: جزاء الأمر. وعُقبُ كل شيء وعقباه وعُقبانه وعاقِبته: خاتمته. والعقبى: جزاء الأمر. وأعقبه: جازاه، وتَعَقَّبَهُ: أخذه بذنب كان منه.
وهكذا يتبين أن العقوبة في اللغة معنى يقصد به تعقب فعل السوء بالجزاء، فكأن فعل السوء يعقبه الجزاء فيؤخذ المذنب ليعاقب على ذنبه، فيقال: عاقبه بذنبه معاقبة وعقوبة وعقابا، أي أخذه به.
التعريف الاصطلاحي للعقوبة في الفقه الإسلامي: لألم الذي يلحق  الإنسان مستحق على الجناية. وعرفت أيضا بأنها: أذى ينزل بالجاني زجرا له. كما عرفت الجزاء المقرر لمصلحة الجماعة على عصيان أمر الشارع.


التعريف القانوني للعقوبة:
عرفت العقوبة في المجال القانوني بأنها: جزاء جنائي يتضمن إيلاما(1) مقصودا يقرره القانون، ويوقعه القاضي على من تثبت مسؤليته عن جريمة.
ويتميز هذا التعريف بأنه مختصر ويركز على ثلاثة أشياء مهمة في الجزاء الجنائي، وهي: مشروعية الجزاء الجنائي، والحكم القضائي، والمسؤلية الجنائية. وعرفت في أيضا بأنها: الجزاء الذي يقرره القانون باسم الجماعة ولصالحها ضد من تثبت مسؤليته واستحقاقه للعقاب عن جريمة من الجرائم التي نص عليها.
ويتميز هذا التعريف باشتراطه أن تكون العقوبة لمصلحة الجماعة، وهذه نقطة على جانب كبير من الأهمية لأن القانون قد يفرض من سلطة ظالمة ويوجه لحماية مصالحها بالدرجة الأولى، هذا، على الرغم من وجود عيب خطير في هذا التعريف يتمثل في عدم التطرق إلى ضرورة أن يصدر بالعقوبة حكم قضائي بات.
كما عرفت العقوبة أيضا بأنها: ألم مقصود يلحق بحق من حقوق مرتكب الجريمة، بسبب تلك الجريمة، وتوقعها المحكمة، بناء على الإجراءات التي نص عليها القانون عند ثبوت وقوع الجريمة منه، وتنفذ في الأماكن، وبالأسلوب، والمعاملة التي نص عليها القانون العقابي. ويتميز هذا التعريف بشموليته، فقد تضمن المشروعية، والحكم القضائي، وصفة التنفيذ.


تعريف العقوبة في مجال علم النفس:
عرفت العقوبة في مجال علم النفس بعدة تعريفات مختلفة، وأحيانا متباينة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر التعريف القائل بأن العقوبة هي: إنزال الألم في فرد ما بسبب خرقه النظام أو إتباعه لمسلك لا يرضى عنه من يوقع هذا الألم.


تعريف العقوبة في مجال علم الاجتماع:
للعقوبة في مجال علم الاجتماع عدة مفاهيم، ونعتبر أن التعريف الذي قدمه (الدوري) ربما يصلح ليكون خلاصة لتلك المفاهيم، حيث يذكر أن العقوبة هي: إيلام شعوري يلحق بشخص ارتكب فعلا غير مرغوب فيه من قبل الجماعة التي يعيش فيها.


تعريف العقوبة في مجال علم الإجرام:
وأما في مجال علم الإجرام فقد عرفت العقوبة بأنها: إجراء يستهدف إنزال الألم بالفرد من قبل السلطة المختصة بمناسبة ارتكاب جريمة، وهي بمثابة رد فعل اجتماعي على عمل مخالف للقانون، وتتجسد بتدابير إكراهية تطال الفرد في شخصيته، أو حقوقه، أو ذمته المالية.
ومن الملاحظ أن هذا التعريف اقتصر على الألم الذي يلحق بالجاني، لذلك ظهر تعريف آخر يتلافى هذا الخلل، ويعرف العقوبة بأنها: إجراء منصوص عليه يوقعه القاضي على من تثبت إدانته في جريمة، يتضمن انتقاصا أو حرمانا من كل، أو من بعض الحقوق الخاصة، وينطوي على إيلام مقصود.


تعريف العقوبة في مجال علم الاجتماع الجنائي:
كان علم الاجتماع الجنائي أكثر تحديدا في تعريفه للعقوبة من علم الاجتماع العام، حيث يعرف العقوبة بأنها: جزاء، أو عقاب يقع على الشخص الجاني تحت أشكال مختلفة، فقد تتضمن إيلاما عاديا، أو معنويا، أو كليهما، أو حرمان من حقوق شخصية بصورة كلية أو جزئية.


ومن الملاحظ أن جميع التعريفات الخاصة بالعقوبة، وإن اختلفت في منطلقاتها وصيغها اللفظية، فإنها تتفق على قاسم مشترك بينها وهو الألم الذي يلحق بالجاني بدنيا، أو نفسيا أو أخلاقي(2)، أو خسارة مادية، أو معنوية، توقعه جهة لها الحق في العقاب بموجب السياسة الجنائية السارية المفعول في المجتمع المعني، توقع على شخص اقترف فعلا مجرما.


تعريف العقوبة الجنائية:
يسهل تمييز العقوبة الجنائية عن غيرها من العقوبات أو الجزاءات التأديبية في حالة وجود قانون للجرائم وعقوباتها (القانون الجنائي الموضوعي) لأن العقوبة في هذه الحالة تأخذ صفتها من صفة الفعل الذي قررت عليه تلك العقوبة.
فالعقوبات الجنائية تختلف عن العقوبات التأديبية التي لا تطبق إلا على الفرد المنتمي إلى فئة معينة، كالعقوبات الصادرة لتأديب موظفي الدولة من مدنيين وعسكريين إزاء مخالفات تمس المركز الوظيفي في الغالب، ومن قبيل ذلك أيضا الاختلاف بين الغرامة الجنائية والغرامة المدنية، فالغرامة المدنية تهدف في الغالب إلى إصلاح الضرر الناجم عن مخالفة ما، ومن قبيل ذلك غرامة التهريب الجمركي التي يمكن اعتبارها مجرد تعويض عن الضرر الذي لحق بخزانة الدولة جراء التهرب من دفع الرسوم الجمركية، أما الغرامة الجنائية فهي ذات طابع جنائي، تهدف إلى معاقبة شخص على جريمة اقترفها، وعلى هذا الأساس وفي ظل وجود مثل هذا القانون فإنه يمكن تعريف العقوبة الجنائية بأنها: العقوبة المقررة إزاء فعل مجرم.
وقد عرفت العقوبة الجنائية أيضا بأنها: مجموعة من التدابير التي تتخذها المحاكم لمعالجة حالات الأشخاص الذين تدينهم بمسؤلية جنائية بمقتضى القانون، وهي تعبر عن رد فعل اجتماعي على ارتكاب الفرد لفعل، أو امتناع يعتبره القانون الجنائي جريمة، وتتمثل هذه العقوبات في سلب الحرية، والاستئصال، والعقوبات المالية.
ويؤخذ على التعريف الأخير هذا أنه أغفل العقوبات البدنية التي تطبقها السياسة الجنائية الإسلامية.


تعريف العقوبة البدنية:
سبق تعريف العقوبة لغة واصطلاحا، أما وصفها بأنها بدنية (physical punishment)  فهو من الوضوح إلى درجة لا يحتاج معها إلى توسع في تعريفه، فالمقصود بالبدني (جسم الإنسان).
تعريف عقوبات الحدود والقصاص والديات في الشريعة الإسلامية:
1- تعريف عقوبات الحدود: هي العقوبات المقدرة على جرائم الحدود وهي الزنا، والقذف، وشرب المسكر، والسرقة، والحرابة، ويضيف بعض الفقهاء الردة والبغي، وهذه العقوبات مقدرة وقد ورد تحديدها بنصوص في القرآن الكريم والسنة المطهرة.
2- تعريف عقوبات القصاص والديات: وهي العقوبات المقدرة على جرائم القتل العمد والقتل شبه العمد والقتل الخطأ والجراح العمد والجراح الخطأ.
3- تعريف التعزير في الشريعة الإسلامية:
التعريف اللغوي للتعزير: عزَّره يعزِّره عزْرا: رده، والعزر والتعزير ضرب دون الحد لمنع الجاني من المعاودة، وردعه عن المعصية. وأصل التعزير التأديب، ولهذا يسمى الضرب دون الحد تعزيرا إنما هو أدب يمنع الجاني أن يعاود الذنب.


التعريف الاصطلاحي للتعزير في الفقه الإسلامي:
تعريف التعزير في الفقه الحنفي:
1-          التعزير هو: تأديب دون الحد، وأصله من العزر بمعنى الرد والردع.
2-          التعزير هو: تأديب استصلاح وزجر عن ذنوب لم تشرع فيها حدود ولا كفارات.
تعريف التعزير في الفقه المالكي:
1-          التعزير هو: العقوبة التي ليس فيها شيء معلوم، بل يختلف باختلاف الناس وأقوالهم وأفعالهم.
2-          التعزير هو: تأديب استصلاح وزجر على ذنوب لم يشرع فيها حدود، ولا كفارات ويلاحظ أن هناك اتفاقا تاما بين هذا التعريف والتعريف رقم (2) في الفقه الحنفي.
تعريف التعزير في الفقه الشافعي:
التعزير هو: تأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود، ويختلف حكمه باختلاف حاله وحال فاعله.
تعريف التعزير في الفقه الحنبلي:
التعزير هو: العقوبة المشروعة على جناية لا حد فيها.
وباستعراض هذه التعريفات للتعزير في المذاهب الأربعة يمكن الخروج بنتيجة مؤداها أن التعزير عقوبة شرعية غير مقدرة لجرائم غير محددة، فيختلف باختلاف الجريمة وملابساتها، والمجرم وحاله.
ومما يلاحظ أيضا أن الفقه الحنفي انفرد من بين المذاهب الفقهية الإسلامية في تعريفه للتعزير بأنه تأديب دون الحد. وإذا ما تم تبني هذا التعريف للتعزير فإن ذلك يعني أن لا يصل التعزير إلى الحد المقدر عند الحكم به على جريمة مما شرع في جنسه حد من الحدود. 


تعريف الإصلاح:
التعريف اللغوي للإصلاح: الصلاح ضد الفساد، صلحَ يصلحُ صلاحاً، والاستصلاح نقيضه الاستفساد، وإصلاح الشيء بعد فساده إقامته.
الإصلاح في نظر علم الاجتماع:
يرتبط الإصلاح (Rehabilitation) بمفهوم العقاب من ناحية، وبطبيعة الإنسان من ناحية أخرى، فمن الناحية العقابية نجد العقوبة تهدف إلى إصلاح الجزء التالف من شخصية الجاني، وليس الاقتصاص منه وإيلامه، ومن هنا فإن من ير أن الإنسان مفطور على الانحراف، أو الشر، يعتقد بأن إصلاحه لا يتم إلا بعقوبة العزل والإيلام وربما التعذيب، ومن ير عكس ذلك يطالب بالإصلاح داخل المؤسسات الإصلاحية أو السجون، والإصلاح مرتبط في الأساس بالفلسفة السائدة حول الأفعال الإجرامية، وبالعقوبة ذاتها، وأيضا بتغير النظرة إلى الجاني، بوصفه إنسانا له الحق في المعاملة التي تتناسب مع منزلته كإنسان، وتعينه في التغلب على مشاكله.(3)
وإذا أريد إصلاح الجناة، فلابد أن يكون ذلك عبر برامج علمية عملية، تنفذ من خلال الجهود التي تبذلها الهيئة الاجتماعية ومؤسساتها الإصلاحية، بهدف استرجاعهم إلى بيئتهم الاجتماعية أعضاءً نافعين، وبهذا تصبح المؤسسة الإصلاحية هي تلك المؤسسة الاجتماعية التي أعدها المجتمع لإيداع المحكوم عليهم بعقوبة سالبة للحرية، ويكون الهدف الأساسي من وجود الجناة في هذه المؤسسة، هو إصلاحهم، وتقويم سلوكهم المعوج.
وعلى هذا فإن الإصلاح في نظر علم الاجتماع هو: الأسلوب الذي تنتهجه بعض المؤسسات المعاصرة كمكمل للعقوبة، أو كبديل للعقاب التقليدي، وهو أسلوب يستخدم التعليم المدرسي، والتأهيل المهني، والعلاج النفسي الفردي والجماعي، أو غيرها من الوسائل العلاجية.
إن النظرة العلمية للإصلاح في مجال علم الاجتماع على هذا النحو تتعامل معه بوصفه إطارا لجهود الوقاية والعلاج والتأهيل الموجهة للنزلاء  داخل السجون والمؤسسات الإصلاحية.
ويرتبط الإصلاح ارتباطا وثيقا بالبرامج الإصلاحية بوصفها الوسائل التي يتم من خلالها تحقيق الإصلاح، وتُعرَّف البرامج الإصلاحية على النحو الآتي:
التعريف اللغوي للبرامج: البرنامج جمعه برامج أي الورقة الجامعة للحساب، والبرنامج: نشرة تعرف وقائع الحفلات، أو شروط المباريات، والبرنامج: خطة يختطها المرء لعمل يريده، وأصل البرنامج كلمة أعجمية عربيها: مناهج.
والبرنامج أو البرمجة Programming هي توضيح سير العمل الواجب القيام به لتحقيق الأهداف المقصودة، والبرنامج يوفر الأسس الملموسة لإنجاز الأعمال، ويحدد نواحي النشاط الواجب القيام بها خلال مدة معينة، ويتضمن وضع البرنامج ناحيتين رئيسيتين: الناحية الأولى هي ترجمة البرنامج إلى المشروعات التي يمكن القيام بها، وتتضمن الناحية الثانية وضع خطة زمنية Scheduling لهذه المشروعات.
وفي مجال علم الاجتماع تعرف البرامج بأنها: أي شيء تؤديه الجماعة لتحقيق أهدافها وإشباع احتياجاتها ورغباتها بمساعدة متخصص، والبرامج هي الأفكار التي تحتوي على أوجه النشاطات المختلفة والعلاقات والتفاعلات للفرد والجماعة والتي توضع بمعرفة الجماعة وبمساعدة متخصصين، لمقابلة حاجاتهم، وإشباع رغباتهم، وبالتالي فإن البرامج الإصلاحية نشاط يهدف إلى إحداث تغييرات في الفرد، والجماعة من ناحية المعلومات والخبرات، والمهارات، وطرق العمل والسلوك والاتجاهات.
وهناك مفهوم واسع للبرامج الإصلاحية في مجال علم الإصلاح إذ تعرف في هذا المجال بأنها: أدوات أو وسائل لتحقيق أهداف المؤسسة الإصلاحية بما تحويه من أنشطة تركز على تفاعلات الأعضاء، وعلاقاتهم جنباً إلى جنب مع تركيزها على إتقان النشاط والإبداع فيه، وعلى هذا الأساس فإن البرنامج الإصلاحي يقع في موقع وسط بين الخطة التي تضعها المؤسسة الإصلاحية لنفسها أو تصنع لها، وبين الأنشطة التي تنطلق أو تنبثق من هذا البرنامج، ويقوم البرنامج الإصلاحي على ثلاثة عناصر هي:


1-          العملاء أو المستفيدون: وعادة ما يكون لهم مواصفات، وإمكانيات وقدرات خاصة، ولهم حاجات تتطلب الإشباع.
2-          القادة: ولا بد أن يكونوا من المتخصصين ذوي المهارات، والإمكانات الفنية والمهنية والإدارية، وعلى ولاء تام للمؤسسة.
3-          النشاط: وهو العامل المشترك الذي يديره القادة المتخصصون، ويوجهونه إلى العملاء المستفيدين، ولا بد أن يكون هذا النشاط مناسبا، وموائما للنزلاء وفقا لميولهم واحتياجاتهم وجنسهم وأعمارهم، ومراعيا للفروق الفردية بينهم، وفي إطار الشرعية التي تحكم المجتمع ككل.
4-          التعريف الإجرائي للإصلاح: هو مجموعة البرامج الوقائية والعلاجية والتأهيلية والوقائية الموجهة للجناة داخل السجون والمؤسسات الإصلاحية إضافة إلى العقوبة، بهدف تحقيق منفعة مستقبلية لهم ولمجتمعهم من وراء العقوبة تتمثل فيمنع مضاعفات المشكلة القائمة والحد من تكرار الجناة لأفعالهم الإجرامية، والحد من عودتهم إلى الجريمة بصفة عامة، ويندرج ضمن ذلك نزع نيتهم الإجرامية، وتبصيرهم بمشكلاتهم وسبل مواجهتها والتغلب عليها، وبالتالي تعديل سلوكهم وتزويدهم بالمهارات النفسية والاجتماعية والمهنية التي تمكنهم من التكيف الإيجابي مع أنفسهم ومع مجتمعهم، وإعدادهم من خلال ذلك كله للعودة إلى وسطهم الاجتماعي أعضاء صالحين ومنتجين.
ويمكن تعريف هذه المحاور الثلاثة للإصلاح (الوقاية – والعلاج - والتأهيل) كالآتي:
المحور الأول- الوقاية من الجريمة (Crime prevention) هي: مفهوم شمولي يتضمن مجمل الإجراءات بما فيها العقوبة التي يتخذها المجتمع للمواجهة، والمكافحة، والعلاج، والدفاع الاجتماعي ضد الجريمة والانحراف على المستوى الفردي، أو المستوى الجماعي.
وتعرف الوقاية من الجريمة أيضا بأنها: عمل مخطط ينفذ توقعا لظهور مشكلة معينة، أو تحسبا لمضاعفات مشكلة قائمة بهدف الإعاقة الكاملة أو الجزئية لظهور المشكلة أو المضاعفات أو كليهما.
ويمكن اعتماد تعريف للوقاية من العود للجريمة يقول:  هي كل إجراء إصلاحي تم ضمن العقوبة وقصد به وقاية المجتمع والفرد من الجريمة.
المحور الثاني- العلاج  (Treatment): هناك عدد من الحقائق تحكم تحديد هذا المفهوم، فالعلاج رد فعل يقوم على عدد من الإجراءات منها: بحث الحالة نفسيا واجتماعيا، والعمل أو الإدماج مع الجماعة، والعلاج البيئي، كالعمل مع جماعة من الرفاق غير الجانحين وكذلك الدعم المادي، والعلاج الجماعي.
 ومن المؤكد أنه كلما قل رد الفعل العقابي البحت كلما زاد رد الفعل العلاجي؛ لأن رد الفعل العقابي البحت وقسوة العقوبات سياسة جنائية ثبت فشلها.
ومن هذا المنطلق يمكن تعريف العلاج في مجال العقوبة بأنه: مجموعة الإجراءات والجهود المبذولة لعلاج الجاني طبيا ونفسيا واجتماعيا وعقليا وسلوكيا، من خلال الطرق والأســاليب العلمية، على اعتبار أن للجاني شخصية غير سوية. ولكي تتم هذه الإجراءات بنجاح لا بد أن يتضمن ملف القضية تقريرا بتشخيص حالة الجاني من جميع هذه الجوانب، بحيث يكون هذا التقرير من أهم المعايير التي يبني عليها القاضي حكمه بالعقوبة، وفي هذه الحالة تصبح العقوبة عقوبة علاجية، ويكون من أهم المعايير التي يتم على أساسها التفريد في أثناء التنفيذ العقابي.
المحور الثالث- التأهيل:  (Training-Flomaton) التأهيل لغة: يقال أهله لذلك الأمر تأهيلا أي رآه له أهلا، واستأهله: استوجبه، وهو أهل لكذا أي مستوجب له. وأهله: جعله مستحقا له، ويقال: أهَّلك الله للخير تأهيلا بمعنى جعلك مستحقا له. ومن قبيل ذلك الأهلية: بمعنى الصلاحية للأمر، والمؤهلات: بمعنى الاستعدادات التي تجعل الرجل أهلا لأمر ما.
وفي مجال العقوبة يتضمن مفهوم التأهيل الافتراض بأن السلوك الإجرامي يمكن تغييره من خلال العمل مع الجناة، والتأهيل يمثل برنامجا، أو مرحلة يتم فيها إعداد المجرم السابق لكي يتقدم نحو الاستيعاب الاجتماعي في مجتمعه، وذلك على طريق متصل من العلاج إلى التأهيل، إلى الاستيعاب الاجتماعي، ويتضمن هذا البرنامج عددا من الخدمات أو المكونات هي: الإرشاد، والتوجيه، والتعليم، بما فيه التعليم المهني، والمتابعة المتمثلة في الرعاية اللاحقة.
وعلى الرغم من الاختلافات الكبيرة بين مختلف المنطلقات في تعريف التأهيل فإنه يمكن النظر له على أنه: مجموعة الإجراءات التي من خلالها يتم إعادة تأهيل الجاني دينيا، وأخلاقيا، ونفسيا، واجتماعيا، وصحيا، ومهنيا، للعودة إلى الوسط الاجتماعي، والعيش فيه عضوا نافعا، ومستقيما، ومتكيفا تكيفا إيجابيا مع نظمه.








(1)  الإيلام هنا لا يعني حصريا الإيلام الجسدي (العضوي) بل قد يكون نفسيا – أخلاقيا، وهو الأكثر تأثيرا والأكثر ديمومة.
(2)  الألم الأخلاقي: منزلة وكرامة ونزاهة المعني بالأمر.
(3)  الفرد (الإنسان) حتى وإن أذنب فإنه لا يفقد إنسانيته، والمواطن ، حتى وإن أذنب فإنه لا يفقد إنسانيته، والنزيل المحكوم بعقوبة سالبة للحرية، طال الزمن أم قصر فإنه سيوف يعود إلى المجتمع يوما ما.