الجمعة، 6 مايو 2011

تفسير الجريمة والعقوبة في العصور الوسطى وعصر النهضة:

ينقسم تفسير الجريمة والعقوبة خلال هذه الفترة إلى قسمين، هما: تفسير الجريمة والعقوبة قبل ظهور الاتجاه الفلسفي، وتفسير الجريمة والعقوبة في الاتجاه الفلسفي.
أولا- تفسير الجريمة والعقوبة قبل ظهور الاتجاه الفلسفي:
ليس من الواضح على وجه التحديد متى بدأت العصور الوسطى أو ما يطلق عليه اصطلاحا (عصور الظلام) غير أنه في أعقاب انهيار الحضارة الإغريقية وسقوط الإمبراطورية الرومانية سنة 476م نشأت دول أوربية ذات سلطة طاغية تتألف من أفراد الأسرة الملكية المتعسفين وجلاوزتهم، والأرستقراطيين والإقطاعيين وملاك الأراضي الجشعين، والكنيسة وكهنتها المنغلقين فكريا.
واعتمدت هذه السلطة (القروسطية)(1) في بقائها على عقوبات بدنية هي الأقسى والأكثر وحشية على مر التاريخ الإنساني، ومن خلالها كرست هذه السلطة هيمنتها، ووسعت من دائرة تجهيل الناس وقسرهم على الأخذ بالخرافات، وضربت هذه السلطة حول نفسها وحول المجتمع الأوربي طوقا من العزلة والانغلاق الفكري (Dogmatism)(2)، فمنعت مؤلفات الفلاسفة الإغريقيين والعرب والمسلمين من التداول لتظل أوربا بعيدة عن المعرفة أو التفكير خارج الإطار الفكري الذي ارتضته هذه السلطة لنفسها ومجتمعها، ولهذا كله يصدق القول بأن العلاقة بين هذه السلطة وأفراد مجتمعها لم تكن علاقة بين حاكم ومحكوم، بل علاقة استعباد واستغلال وتجهيل، يضاف إلى هذا أن حياة الأفراد كانت حياة اضطراب وقلق ورعب مستمر بسبب عدم وجود قوانين (نظم) نزيهة وواقعية توضح الحقوق والواجبات، وفوق هذا كله لا توجد عدالة ولا حرية ولا مساواة.
ويأتي تفسير الظواهر والأحداث في أوربا خلال العصور الوسطى منسجما مع هذه الدرجة العالية من التخلف الفكري والوحشية في المعاملة، فقد احتكرت السلطة القروسطية تفسير جميع الظواهر والأحداث الاجتماعية والطبيعية على حد سواء، فكانت تفسيراتها للجريمة والعقاب تفسيرات خرافية فرضت على الناس الأخذ بها وقسرتهم على تغييب العقل وكبت الفكر، ودأبت على تدعيم خرافاتها بالوقوف من المنجزات العلمية وأصحابها موقف التشكيك والاحتقار والعداء، بل لقد عاملتهم بوصفهم مجرمين يستحقون العقاب، فأصبح الفكر خليطا هجينا من الأفكار الخرافية والفكر الإغريقي القديم غير المنقح(3)، ومن الأمثلة على نتاج هذا الفكر الهجين تفسير الجريمة بأنها ناتجة عن تأثير أرواح شريرة تأمر الإنسان بالغواية والجريمة والاعتداء على حقوق هذه السلطة، وانعكس هذا التفسير على العقاب فكان هو الآخر خليطا من قسوة الفئات وطغيانها ووحشيتها تلك التي تتألف منها السلطة القروسطية، ولفرط قسوته ووحشيته فقد كان يبدو متنافيا مع الخلق الإنساني والعقل السليم والمنطق، يضاف إلى ذلك استناد العقوبة إلى فكرة التطهير التي ترى أنه كلما كان العقاب قاسيا كان التطهير من الذنب أعمق وأشمل؛ وكان من نتائج هذا كله أن أصبح الفكر المعالج للانحراف والجريمة والعقوبة في القرون الوسطى من أكثر الأفكار سوءا، ومن نتائجه أيضا انكماش الفكر النير على قلته، واختلاط البعض منه بالخرافات، وطغيان الإنتاج المساير لإرادة السلطة، وتدهور جميع أوجه الحياة الاجتماعية والفكرية، وازدياد التنافس بين فئات السلطة القروسطية على النفوذ وبسط السيطرة من خلال المحاكم الخاصة بكل فئة وما تصدره من عقوبات بدنية قاسية(4)، وبالتالي أصبحت العقوبة إجراء مزدوجا بين هذه الفئات(5).
إن الاستعباد والانغلاق الفكري والاستقواء بالعقوبات القاسية وإرهاب الناس بها، كلها صفات سيئة متأصلة في السلطة القروسطية، الأمر الذي جعل العقوبة ضربا من ضروب التعذيب الحقيقي، وفي الوقت الذي كانت السلطة فيه تعيق المجتمع عن التطور نجدها تعمل على تطوير طرق ووسائل التعذيب العقابي، ويمكن حصر أكثر هذه الطرق والوسائل بشاعة في إحدى عشرة صورة هي: عقوبة الغل، وعقوبة عمود التشهير، وعقوبة الجلد، وعقوبة الوسم، وعقوبة العمل الشاق على السفن، وعقوبة قطع الأطراف، وعقوبة ثقب اللسان، وعقوبة الشنق، وعقوبة التحطيم على الدولاب، وعقوبة الحرق بالنار، وعقوبة التمزيق:
أولا- عقوبة الغل: في هذه العقوبة تربط يدا المحكوم عليه بمؤخرة عربة يستقلها الجلاد، ثم يجره إلى عمود منصوب في ساحة عامة تتدلى منه سلسلة حديدية بها طوق يدخل فيه عنق المحكوم عليه ثم يغلق عليه، وتعلق على صدر المحكوم عليه لوحة توضح جريمته، ويبقى مصلوبا على هذه الحال لمدة قد تصل إلى عدة أيام، ولم تلغ هذه العقوبة في أوربا إلا في عام 1832م.
ثانيا- عقوبة عمود التشهير: يتكون الجزء الرئيس في آلة هذه العقوبة من قطعة خشبية دائرية الشكل مثبتة على عمود لـه ارتفاعات مختلفة ليتناسب مع أطوال المحكو عليهم، وقد ثقبت هذه القطعة المستديرة ثلاثة ثقوب، الأول في المنتصف ويُدخل فيه رأس المحكوم عليه، والثقبان الآخران على الجانبين وتدخل فيهما اليدان، ومن وقت لآخر يتم تدوير قطعة الخشب هذه حول محورها حتى يُعرض وجه المحكوم عليه في جميع الجهات ويبقى المحكوم عليه واقفا على هذه الحالة مدة يحددها الحكم قد تصل إلى بضعة أيام، ولم تلغ هذه العقوبة إلا في عام 1848م.
ثالثا- عقوبة الجلد: وفيها يساق المحكوم عليه إلى عدد من الساحات العامة ثم يجلد على ظهره في كل ساحة الجلدات المحددة في الحكم، وتنفذ هذه العقوبة بأسلوب تشهيري انتقامي.
رابعا- عقوبة الوسم: تسخن قطعة من الحديد حتى الاحمرار وبطرفها علامة محددة في الحكم، ثم توضع على كتف المحكوم عليه، وقد توضع على الكتفين حسب منطوق الحكم، فتبقى هذه العلامة مدى حياته، ولم تلغ هذه العقوبة إلا في عام 1832م.

خامسا- عقوبة العمل الشاق على السفن: يوضع في عنق كل سجين حلقة حديدية تتدلى منها سلسلة بطرفها حلقة أخرى توضع فيها إحدى الرجلين، وفي منتصف هذه السلسة توجد سلسلة مماثلة تربط بالمعصم، ثم يربط جميع السجناء بسلسة مشتركة ويسوقهم الحراس إلى السفينة، وهناك يربط كل سجين في مكان محدد على السفينة بطريقة تتيح إجباره على التجديف المتواصل.
سادسا- عقوبة قطع الأطراف: وفي الغالب تتركز هذه العقوبة على قطع اليد من المعصم بسكين معدة لهذا الغرض وبواسطة جلاد متمرس على تصيد المواضع الأكثر إيلاما، والإبطاء في التنفيذ إمعانا في التعذيب والتنكيل.
سابعا- عقوبة ثقب اللسان: وفي هذه العقوبة يتم ثقب اللسان بقطعة حديدية، ولا بد أن يتضمن الحكم تحديد ما إذا كانت هذه القطعة باردة أم محمَّرة بالنار.
ثامنا- عقوبة الشنق: حيث يوضع المحكوم عليه فوق سلم من الخشب معد لهذا الغرض، ثم يربط حول عنقه حبلان ينتهي كل واحد منهما بأنشوطة، وتوثق ذراعاه بعمودي المشنقة، بينما يصعد الكاهن إلى جواره ليحثه على الصبر والتوبة، ثم يُقذف بالمحكوم خارج السلم ليتدلى فتنشد أنشوطتا الحبلين حول عنقه لكنهما لا تؤديان إلى موته مباشرة لأن الموت ليس هدفا لوحده بل لا بد من التعذيب، لذلك يصعد الجلاد على ذراعي المشنوق ويوجه ضربات شديدة إلى معدته، وتستمر هذه العملية حتى يفارق الحياة.
تاسعا- عقوبة التحطيم على الدولاب (شكل أسطواني): وفي هذه العقوبة  يمدد المحكوم عليه ويوثق فوق دولاب من الخشب قابل للانثناء ووجهة إلى السماء ورأسه على حجر، ثم ينهال عليه الجلاد فيضربه بقضيب من الحديد ضربة واحدة قوية على مفاصل كل من: الكتفين، والمرفقين، والمعصمين، وأعلى الفخذين، والركبتين، والرسغين، وكلما انتهى الجلاد من جانب سار فوق جسد المحكوم عليه إلى الجانب الآخر، فإذا ما انتهى من تحطيم المفاصل ضربه ضربتين قويتين على معدته، بينما يحرك رَجُلان ذراعي الدولاب ببطء ليطوى المحكوم عليه حتى يلامس كعباه مؤخرة رأسه، ووسط صراخه من شدة الألم يترك على هذه الحال أمام الناس إلى ما بعد قتله بزمن محدد في قرار الحكم.
عاشرا- عقوبة الحرق بالنار: بعد أن تنزع ثياب المحكوم عليه يشد وثاقه إلى عمود حديدي مثبت في الأرض، ثم يطلى جسده بمادة الكبريت، وتجمع كومة من الحطب حول العمود الحديدي ليكون المحكوم عليه في وسطها، ثم تشعل النار في هذا الموقد لترتفع ألسنة اللهب وسط صراخه، وتترك النار مشتعلة حتى تحوله إلى رماد.
حادي عشر- عقوبة التمزيق (التقطيع إلى أوصال): وهي عقوبة التعرض للذات الملكية الأوربية الطاغية ولو بفعل بسيط. وفي هذه العقوبة يمدد المحكوم عليه على ظهره فوق مصطبة من الخشب تشبه الكرسي، ثم يشد وثاقه إليها بقضبان من الحديد، وإذا كان المحكوم عليه قد استخدم آلة ما في هذا التعرض فإنها توضع في يده ثم تطلى بالكبريت وتشعل فيها النار، وبينما النار تشتعل يقطع الجلاد بكماشة خاصة قطعا من لحم المحكوم عليه يختارها من الثديين والذراعين والساقين، ثم يملأ الحفر الناتجة عن انتزاع اللحم بمعجون شديد الحرقة مكون من الكبريت والرصاص والزيت ومواد أخرى، ثم يؤتى بأربعة من الخيول وتربط كل رجل وكل يد بسرج جواد، ويعمل الفرسان على تحريك الخيول حركات بسيطة تسبب آلاما رهيبة، ثم يؤمر الفرسان بإطلاق خيولهم لتمزيق الأطراف، ثم تجمع الأطراف الممزقة وتوضع مع جذع الجسد في موقد مشتعل، وقد استمر تطبيق هذه العقوبة حتى عام 1757م.
وإلى جانب هذا التعذيب الجسدي لم تغفل (السلطة القروسطية) التعذيب النفسي، إذ يتم إعداد هذه الآلات والتحضير للتنفيذ أمام المحكوم عليه، وإذا ما تصادف أن حكم على عدد من الأشخاص بعقوبة واحدة من هذه العقوبات فإنها تنفذ فيهم الواحد تلو لآخر أمام بعضهم البعض إمعانا في التعذيب النفسي(6).
وعلى الرغم من كل هذا الطغيان و القسوة في العقاب فقد غدت العقوبات بمثابة قوى حافزة لأفراد المجتمع الأوربي على مزيد من الاقتناع بأن الانتقام بالدم هو الوسيلة الوحيدة للتغيير والقضاء على السلطة القروسطية وبطشها وطغيانها، فقد تعودوا على رؤية الدم وسماع الأنين المنبعث من الأجسام التي تئن تحت وطأة الإيلام الجسدي للعقوبات البدنية(7).
أما الفلاسفة فقد كانت مقاومتهم لهذا الوضع من خلال الفكر، والتي ابتدأت بشكل واضح منذ القرن الثالث عشر حين بدأ التعريف بالكتابات والفلسفات المترجمة عن الإغريقية والعربية على يد (ألبرت الكبير (Albertus Magnus, 1200-1280 وتلميذه طوماس الأكويني (T. Aquinas, 1225-1274) الذي لعب دورا في هذا المجال سوف يحفظه له التاريخ، فقد كان جريئا في زمن كان يمكن أن يدفع حياته ثمنا لهذه الجرأة، ومن ذلك تأكيده على أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بلا مجتمع يتم فيه تبادل الخدمات في ظل سلطة تنظم هذا التبادل بشكل عادل، ووفق اتفاق بين هذه السلطة والأفراد (الحاكم والمحكو عليهم) بحيث يحدد هذا الاتفاق صلاحيات السلطة وواجباتها، وكذا مسؤلية الأفراد وواجباتهم بشكل لا يسمح لأي منهما بتجاوز حدود هذا الاتفاق وإلا تعرض المجتمع للفوضى. يضاف إلى جرأة طوماس الأكويني هذه في تقييد ممارسات السلطة وقد اعتادت أن تكون ممارساتها مطلقة، أنه أعطى للمجتمع الحق في مقاومة السلطة إذا ما انحرفت عن حدود سلطتها التي حددها المجتمع.    
وإذا ما أُخذت المحاذير التي كانت تحيط بالفلاسفة والمفكرين في العصور الوسطى بعين الاعتبار فليس بكثير على فلسفة (طوماس الأكويني) أن تعد من أهم عوامل انطلاقة عصر النهضة الفكرية في أوربا (Renaissance) في مطلع القرن الرابع عشر، وما شهده ذلك العصر من محاولات لإعادة بناء الفكر بالاستناد إلى الفلسفة الإغريقية، تلك المحاولات التي قام بها عدد من فلاسفة عصر النهضة ومن أشهرهم وأكثرهم قربا إلى موضوع دراستنا هذه:
توماس هوبزThomas Hobbes.1588-1679.
جون لوك John. Locke. 1632-1702.
البارون تشارزدي مونتسكيو،Baron Charles Montesquieu. 1689-1755.
جان جاك روسو Jean Jacques Russo. 1712-1778.
تشيزاري بكاريا (Cesare Beccaria, 1738-1794.
جريمي بنثام Geremy Bentham.1748-1832.
بلقرينو روسي  1787-1848.     
اضطلع هؤلاء الفلاسفة وغيرهم من فلاسفة عصر النهضة بنقد السلطة القروسطية وأنظمتها التشريعية والقضائية والتنفيذية الفاسدة، وكان هذا النقد يتم في الغالب بصورة غير مباشرة. وتُشكل أفكار معظم هؤلاء الفلاسفة ونظرياتهم الأساس الذي تقوم عليه معظم التطبيقات المعاصرة في مجال الجريمة والعقوبة خاصة، ولا تزال بعض المؤلفات والنظريات والأفكار التي جاءوا بها قائمة ومؤثرة على الفكر الإنساني حتى اليوم، ومنها: روح القوانين(8)، والعقد الاجتماعي، و فكرة مناهضة الاستعباد على أساس أن الأفراد ولدوا أحرارا(9)،  والمساواة والعدالة الاجتماعية، ومبدأ فصل السلطات، ومبدأ التخصص في القضاء، ومفهوم المسؤلية الجنائية، والدوافع الموجهة للسلوك، ونظرية المنفعة المستقبلية للعقوبة، ونظرية اللذة والمنفعة، ونظرية الوقاية من خلال تحديد العقوبة لكل جريمة مسـبقا(10), وقد ظهرت بعض هذه الأفكار والنظريات في وقت كان يمكن أن يستتاب فيه من يفكر على هذا النحو الخارج عن الإطار الفكري للسلطة القروسطية أو يقتل، إلا أن هذه السلطة كانت قد فقدت واحدا من أركانها بانهيار النظام الإقطاعي مع نهاية القرن الرابع عشر، وقد ساهم هذا مع غيره من العوامل في إضعاف الهيمنة والتسلط الكنسي، ومن تلك العوامل: الحروب، وتزايد الانتقادات الموجهة للكنيسة من المرجعيات الدينية نفسها ومن قبل الفلاسفة والمصلحين، والدعوات المتتالية للإصلاح الديني والكنسي كتلك التي أطلقها (مارتن لوثر  (M. Luther   1483-1547 (طالب، محاضرات أكاديمية.
لقد حضي عصر النهضة باهتمام كبير من قبل الباحثين المتتبعين لمسيرة الشعوب نحو المرحلة المعاصرة، لاستخلاص الفوائد النظرية والتجارب التطبيقية، ومنهم من يقسم الحياة العقلية الأوربية منذ القرن الرابع عشر حتى الثورة الفرنسية سنة 1789م إلى أربعة أقسام على النحو الآتي:
أولا- عقلية الإنسانيين: وهي العقلية التي تنادي بأنسنة العلوم أو ما يسمى الاتجاه الاجتماعي للعلوم في مقابل الاتجاه الميتافيزيقي (ما وراء الطبيعة) وقد انصب اهتمام أصحابها على الإنسان وما يحيط به ويؤثر عليه في حياته، مما أدى إلى الاهتمام بالأمور الدنيوية والاستطلاع العلمي. وما يؤخذ على الإنسانيين في تلك المرحلة الأولى من بداية النهضة العلمية أو بالأحرى الانعتاق من طغيان الكنيسة والإقطاع هو ارتباطهم إلى حد ما بالكهنوتيين، الأمر الذي جعل بعض إنتاجهم مشوبا بالغموض والميتافيزيقيا، كما أن كل من الإنسانيين والكهنوتيين بعد هذا الارتباط قد انشغلوا بأمجاد الماضي إلى درجة فتنتهم عن الإسهام في تقدم البشرية كما هو مفترض أو متوقع منهم،  وبخاصة الإنسانيين.
ثانيا- العقلية الكاثوليكية والبروتستانتية: وهذه العقلية بدأت في التشكل مع بوادر الهجوم على التسلط الكاثوليكي من قبل البروتستانت وغيرهم من مصلحي المجتمع ومثقفيه، وقد فتح هذا الهجوم بابا للمناقشة في أمور ترى الكنيسة أن النقاش فيها كفر يوجب القتل، مثل خرافة الوساطة التي يؤديها الكهنوت بين الفرد وربه، ولقد مهد هؤلاء المحتجون الطريق لإعطاء كل فرد حق شرح الكتب المقدسة وفهمها، وهذا بدوره قد أتاح فرصة للتقدم العقلي الذي كان مكبوتا نهائيا، وكانت الأمور في هذا الجانب تسير على ما يرام لكنها ما لبثت أن ساءت عندما عاد الاتفاق بين الكاثوليك والبروتستانت بعد اعتراف الكنيسة بالبروتستانت وانضم إليهم أصحاب المناداة بالرجوع للماضي السعيد وهم من يطلق عليهم اصطلاح (الرومانطيقيون) وتطوروا فيما بعد إلى تكتل المذهب المحافظ وأطلقت عليهم تسمية (المحافظين الجدد) من أمثال (فشتة Fichte.1762-1814) و(لست List. 1789-1846)، وكان هذا الاتفاق قد انصب على جملة من الأمور مثل وحدانية سلطة الكنيسة، ووحدانية التفسير الديني، وارتباط الشرعية السياسية بالشرعية الدينية، والتكفير وموجباته أو ضوابطه، والإبقاء على الارتباط بين الكنيسة والسلطة السياسية في أقوى صوره، وكل ذلك يسيرُ في إطار الإبقاء على الميتافيزيقا كأولوية في الحياة، ومن هنا ظهرت عقلية بروتستانتية كاثوليكية مشتركة أخذت على عاتقها مناهضة البحث العلمي، وهي العقلية ذاتها التي استتابت (جاليليو  Galileo.1564-1642)   وأجبرته على العدول عن نظريته القائلة بأن الأرض تدور حول الشمس، وهي العقلية التي يحملها (لوثرLuther) عندما وصف البحث العلمي بأنه زوجة الشيطان وأن العلوم أعداء الله بعد أن كان قد نادى بالإصلاح الديني الكنسي، وهذه العقلية هي التي قالت إن ما تراه العين من خلال جهاز التلسكوب إنما هو من فعل الشيطان القابع داخل الجهاز يخدع به العين، ورغم هذا التسلط وقسوته فإنه لم يصمد أمام تقدم العلم وشيوعه في المجتمعات الأوربية.
ثالثا- العقلية العلمية (التجريبيون): ظهرت هذه العقلية عندما اتجه العقل بشكل أقوى في القرن السابع عشر إلى تغليب الملاحظة والتجريب على الميتافيزيقيا التي كانت تسيطر على العقلية الكنسية وعقلية التحالف البروتستانتي الكاثوليكي، ومن هنا أعطى العلم للبشرية عقلا جديدا في فترة شديدة الألم والمعاناة كان العلماء خلالها يعقدون اجتماعاتهم ويجرون تجاربهم سرا، وتآخى العلم والعقل الجديد لإزاحة التسلط الديني الكنسي. وكان من نتائج هذا التآخي أن نادى (بيكون (Francis Bacon. 1561-1626  في عام 1620م بالطريقة الاسـتقرائية، في البحث العلمي والتي كان لها عظيم الأثر في الانطلاق من فهم الجزئيات إلى فهم الكليات(11).
رابعا- عقلية الفلسفة أو الفلسفة العقلية: شهد عصر النهضة صراعا فكريا شديدا بين عدد من التيارات منها تيار العقليين وتيار التجريبيين؛ فالعقليون (Rationalists) - وإن كانوا يؤمنون بأن لكل معرفة جذورا في الخبرة تدرك بالحواس - هم أكثر أيمانا بأن هناك أمورا يصل إليها الإنسان بعقله فقط، بينما يؤمن التجريبيون (Empiricists) بأن ما يوجد في العقل قد وجد في الحواس قبل ذلك، فنجد العالم (جون لوك (J. Locke 1632-1704 يؤكد على أن الخبرة هي أساس المعرفة، أما المتشككون فينكرون إمكانية المعرفة الحقة أو الكاملة بأي طريقة من الطرق، فالإنسان على سبيل المثال لا يستطيع معرفة شيء عن حالته الدماغية كمادة محسوسة لاختبار دعاوى التجريبيين، ولا عن العالم الخارجي غير المحسوس كمجال لاختبار مصداقية العقليين.
دفعت هذه الصراعات الفكرية في عصر النهضة بالفكر الأوربي إلى مرحلة أكثر تقدما أطلق عليها عصر التنوير (Enlightenment) خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، فخلال هذين القرنين شهدت المجتمعات الأوربية طفرة هائلة في المجال الفلسفي، وكذلك المجال العلمي التجريبي أو ما يطلق عليه الاتجاه الوضعي (Positivism) بعد أن انهار الإقطاع وضعف التسلط الكنسي نهائيا، وبهذا الانهيار أحس الإنسان المفكر أنه تحرر من قيود الماضي المظلم الذي اقتادته إليه الكنيسة بوصفها أهم فئة من فئات السلطة القروسطية، وجعلته يعيش في حياة تسيطر عليها الخرافة والتقاليد المكبلة للإبداع، وأحس كذلك أنه أصبح بإمكانه أن يفكر بنفسه بعد ما كانت الكنيسة تفكر نيابة عنه، ليخرج من ذلك النفق المظلم إلى النور والحرية، ويطلق لذكائه العنان ليكتشف أدلة قاطعة على أن الطبيعة محكومة بقوانين فيزيائية ثابتة(12)، لا بد من معرفتها ومن ثم تحويل هذه المعرفة إلى علم واختراعات وقوة تحقق الخير للإنسان.
ثانيا- تفسير الجريمة والعقوبة في الاتجاه الفلسفي:
تأثر تفسير الجريمة والعقوبة بالتطورات التي شهدها عصر النهضة، فظهر خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر عدد من الفلاسفة الأوربيين الذين اهتموا بتفسير الجريمة والعقوبة بأسلوب مختلف عما كان عليه الحال في العصور السابقة في المجتمعات الأوربية، وقد أطلق على إنتاج أولئك الفلاسفة الاتجاه (الفلسفي)، وقد كان هذا الاتجاه بمثابة القاعدة أو الأساس الذي انطلق منه الاتجاه العلمي فيما بعد، ويشمل الاتجاه الفلسفي هذا ازدهار نظرية العقد الاجتماعي، وولادة المدرستين التقليديتين الأولى والثانية وتفصيل ذلك على النحو الآتي(13):
أولا- المدرسة التقليدية الأولى :(The First Classical School)
نشـأت هذه المدرســة نتيجة لأعمال الفيلســوف الإيطالي (تشــيزاري بكاريا Cesare (Beccaria, 1738-1794) ثم تبعه على النهج نفسه تقريبا الفيلسوف الإنجليزي (جريمي بنثام (Jeremy Bentham, 1748-1832.
أ- تشيزاري بكاريا(14): وضع بكاريا مؤلفا أسماه "محاولة في  الجرائم والعقوبات" (An essay on Crimes and Punishments) سنة 1764م، وقد أحتوى على أربعة وأربعين عنوانا نلخصها في الآتي: (15):
1- أصل العقوبة والحق في العقاب:
تستطيع السلطة أن تقدم للمجتمع منفعة أكيدة عندما تكون قائمة على المشاعر الدائمة للجنس البشري، وهناك مبادئ تعطي للسلطة كامل الحق في العقاب على الجرائم يأتي في مقدمتها أن الأفراد قد تنازلوا عن أجزاء من حرياتهم وأودعوها لدى السلطة لكي تضمن ممارستهم لما تبقى لديهم من حريات وحقوق طبيعية وتحميهم من الآخرين عند الحاجة، لذلك يتحتم على السلطة أن تدافع عن هذه الأمانة بوصفها حقا للجميع لا يجوز الاعتداء عليه، ولن يتسنى للسلطة الدفاع عن هذه الأمانة بغير العقوبات المقدرة بنصوص قانونية ضد كل من يحاول استرداد حصته أو اغتصاب حصص الآخرين، على أن لا تتجاوز العقوبة ما هو ضروري لحماية هذه الأمانة (الأمن العام والطمأنينة) وإذا ما تجاوزت العقوبة هذا الهدف فهي تعسف وجور وبالتالي غير عادلة.
ومن المؤكد أن الحقوق تصبح في مأمن كلما حافظت السلطة على حرية أفراد المجتمع، وليس هناك ما هو أخطر على هذه الحرية من أن تنتهك بواسطة العقوبات وباسم الدفاع عن الأمن العام، لذلك لا بد أن تكون الجرائم والعقوبات محددة بدقة، وأن يصبح القاضي حكما بين السلطة التي تتهم وتحدد طبيعة الانتهاك الذي تعرض لـه العقد الاجتماعي، والمتهم الذي يبقى بريئا إلى أن يدينه هذا الحكم (القاضي). ولا بد أيضا أن يدرك القاضي تمام الإدراك أن أي عقوبة تتجاوز الحد المقدر تصبح عقوبة ثانية مضافة إلى العقوبة الأولى الأصلية، وعليه وهو يبحث عن عقوبة عادلة أن يعي جيدا أن القسوة تتعارض مع العدالة، ومن هنا فإن العقوبة تصبح غير عادلة عندما تتصف بالقسوة غير المبررة.
2- تفسير القوانين(الأنظمة):
وُجِد القانون أساسا لتنظيم حياة الناس في المجتمع لذلك فإنه ليس وقفا أو وصية يخلفها الأجداد للأبناء لا ينبغي تعديلها أو التصرف فيها بشيء، لأنه في الوقت الذي تبقى فيه هذه الوصية ثابتة فإن المجتمع ينبض بالحياة والتغير الأمر الذي يؤدي إلى ظهور رغبات وحاجات لم تكن موجودة وقت إبرام العقد الاجتماعي وما يتبعه من قانون منظم لشؤون الحياة، فإذا ما أنكرت السلطة هذه الحقيقة وأجبرت الأفراد على عقد أو قانون قديم لا يوافق إرادتهم الجديدة فإنها تنقل الأفراد من الوضع الاجتماعي إلى حالة من البهيمية(16). ولهذا فإن المشرع (المنظم) ملزم بإدخال تعديلات وشروح على عبارات القانون التي تثير الشك والاضطراب في فهم الناس وتفسيرهم، حتى يلجم القدرة على التخريج الفاسد والممارسات الاستبدادية تحت ذريعة التحري عن روح القوانين(17)، وبقدر ما يُقفل هذا الباب يصبح معيار العدل هو القاعدة في مسلك القاضي تجاه المتهم دون تمييز على أساس الوضع الاجتماعي أو الاقتصادي أو التعليمي مثلا، وهنا يتخلص المواطنون من إرهاب الطغاة والجهلة الذين يفسرون أي التباس في القانون وفق مصالحهم وأهوائهم.
إن التفسير التحكمي للقانون شر لا يعادله سوى الغموض في صياغة القانون لأن هذا الغموض هو الذي يجلب التفسير التحكمي، وهذان الشران يزدادان باطراد كلما كان القانون مدونا بلغة غريبة على فهم الناس، ويفاقم هذه الحالة الشاذة أن الأفراد يصبحون غير قادرين على تقدير ما لهم من حريات وممتلكات فيندفعون إلى محاباة الطغاة الذين توجه تفسيرات النصوص الغامضة لخدمتهم. وشيئا فشيئا حتى تصبح الأحكام التشريعية من أملاك هؤلاء الطغاة، ومن هنا فإن الأفراد يصبحون أسرى الجريمة والخوف منها أو أسرى الطغاة المتحكمين في حقوقهم ومصائرهم. ويأتي عكس ذلك أن الأفراد كلما فهموا مضمون التشريعات على وجهها الصحيح، فإن مؤشر الجرائم سيتجه نحو الانخفاض؛ ذلك لأن العلم والتثبت من وجود العقوبات واليقين بها يكبح جماح العواطف لدى من ينوي اقتراف الجرائم. هذا فضلا عن أن القانون المكتوب والواضح يوجد سلطة ثابتة وقوية تمثل الكل وليس البعض، وهذا الثبات والقوة والتمثيل أمور تجعل السلطة غير قابلة للتعديل إلا من قبل الإرادة العامة للأمة، وبهذا تكون السلطة بمنأى عن أي محاولة يبذلها قلة من الجشعين لزعزعتها، ويجعلها كذلك بمنأى عن الوقوع في يد مرضى الأنانية.
3- التعذيب:
من أكثر الممارسات تعارضا مع العدالة أن يُستخدم التعذيب لإجبار المتهم على الاعتراف بالجرم المنسوب إليه، وإذا كان في استطاعة السلطة الطاغية أن تسوق مبررات لقسوة عقوباتها، وهي في الأصل مبررات واهية، فليس بإمكانها تقديم أي مبرر لممارسة التعذيب. إذ تتجه كل المبررات لرفض التعذيب وإثبات فشله في كشف الحقيقة، فقد يعذب متهم ثم تثبت براءته بمجرد الصدفة وليس بمقاومته للألم، وقد يعترف متهم تحت وطأة التعذيب ثم تتبين براءته أيضا. ولما كانت غالبية الأفراد لا ينتهكون القانون فإن احتمال تعذيب شخص بريء يكون كبيرا.
وليس هناك ما هو أكثر وحشية وتناقضا مع العقل والمنطق والصفات الإنسانية الحميدة من التعذيب، إذ كيف تصبح قوة التحمل هي العامل الحاسم في الاعتراف من عدمه وقد صح في الأذهان أن الشخص الأقل تحملا سيعترف على نفسه ليضع حدا لعذابه، وفي هذه الحالة يصبح حكم القاضي كالآتي:
أنت أيها المتهم القوي: لقد كنت قادرا على مقاومة ألم التعذيب فإنني أبرئك من التهمة المنسوبة إليك. أما أنت أيها المتهم ضعيف التحمل فإنني أدينك وسوف أحكم عليك بالعقوبة إضافة إلى ما تعرضت له من تعذيب.
وتقترب حالة أخرى من نتيجة التعذيب هذه، وهي إدانة المتهم لمجرد التناقض في أقواله، فخوف المتهم البريء من العقاب وخوفه من خطأ المحققين والقضاة في تقدير أقواله وتفسيرها، ورهبة مواقف التحقيق والمحاكمة وهيبتها، كل ذلك جدير بإلقاء الشخص البريء في التناقض بنفس الدرجة التي يقع فيها المجرم في التناقض وهو يحاول إنكار جرمه.
4- ليونة العقوبة:
ليس الغرض من العقوبة تعذيب الجاني وإيلامه، ولا عرقلة فعل سبق حدوثه، وإنما الغرض هو منع المجرم من إحداث أضرار جديدة بحق المجتمع وثني الآخرين من اقتراف أفعال مماثلة، ولهذا ينبغي انتقاء العقوبات التي تعطي أطول اثر في أذهان الأفراد، وأقل قدر ممكن من الألم على جسد الجاني. ولكي تكون العقوبة على هذا النحو فإنه ينبغي تحقيق قدر من التناسب بين الجرائم وعقوباتها(18)، بحيث يتجاوز الضرر الناجم عن العقوبة ما حققته الجريمة للجاني من منفعة. ولا يعني هذا أن تكون العقوبات قاسية فهناك حقيقة لا مفر من التسليم بها، وهي أن الأفراد يخافون من أقسى عقوبة مطبقة في مجتمعهم خوفا شديدا، حتى وإن كانت هذه العقوبة تعد أهون عقوبة في مجتمع آخر.
وهناك حقيقة أخرى لا سبيل إلى إنكارها، بل يجب أن تكون معروفة تماما لدى السلطة التي توقع العقاب، ألا وهي وجود تناسب بين قسوة العقوبات، وقسوة نفوس أفراد المجتمع، فكلما كانت العقوبات قاسية وغير إنسانية أصبحت نفوس الأفراد قاسية وعديمة الرحمة وأكثر تملقا ونفاقا، وبالتالي فإن المجرمين يقترفون جرائم أكثر قسوة وترويعا ووحشية، وهنا تصبح البلاد والعهود التي تشتهر بالعقوبات القاسية وغير الإنسانية من أكثر البلاد والعهود اقترافا لأبشع الأفعال الدموية على يد المشرعين والجناة على حد سواء.
5- عقوبة الإعدام:
أظهرت التجربة في كل العصور أن العقوبات القاسية لم تمنع الأشخاص من اقتراف الجرائم، وهذا يعزز الاعتقاد بأن شدة العقوبة في حد ذاتها لا تحدث أثرا في النفس البشرية بقدر ما تحدثه مدة العقوبة؛ لأن النفس البشرية تتأثر بشكل عميق ودائم بالانطباع الخفيف إذا كان متكررا ومستمرا أكثر من تأثرها بالفعل الفظيع لكنه مؤقت وسريع.
ولما كانت الأخلاق تنطبع في الذهن عن طريق الأفعال ذات الزمن الطويل والمتكرر فإن مشهد الموت لا يحدث لدى الأفراد هذا الانطباع بقدر ما يحدثه المثال المؤلم للشخص المحروم من الحرية وكذلك الشخص المحكوم عليه بتأدية أعمال يخدم من خلالها المجتمع تعويضا للمجتمع عما لحق به من أضرار جراء الفعل الإجرامي، ففي كلتا الحالتين يتحول الجاني إلى شخص شبه مملوك للمجتمع، وهذا هو أقوى كابح ضد الجريمة؛ لأن الفرد يكرر على نفسه القول: إنني سوف أخضع إلى هذا الوضع البائس الطويل لو أنني عدت إلى اقتراف الجريمة.
وهذه الفكرة مؤثرة أكثر من فكرة الموت التي تشاهد للحظة، ولا يتذكرها الأفراد بعد انتهائها إلا في حالات نادرة وغامضة مما يضعف أثرها في النفس. وفوق هذا فإن الوقت والعواطف والانفعالات تعمل على محو معظم الأشياء من ذاكرة الأفراد, ومثلما يفاجئهم الفعل العقابي الشنيع، فإن تأثيره يزول من ذاكرتهم بالطريقة نفسها.
ومع تكرار عقوبة الإعدام فإنها تتحول مع الوقت إلى مجرد مشهد للتفرج، وتحدث لدى الأفراد تعاطفا مع المحكوم عليه وازدراء للسلطة، وقد لا تكون هذه المشاعر واضحة حتى لصاحبها لكنها تترسب في النفس، وتؤهل الأفراد لاندلاع موجات من الغضب والعنف ضد السلطة. في حين أن العقوبات المعتدلة والطويلة لا تؤكد ولا تثبِّت في مشاعر الأفراد سوى الخوف الذي يمنعهم من اقتراف الجرائم، وهذا ما يجعل السلطة العادلة تنجح في ترويض نفوس الأفراد على الأخلاق الحميدة والمشاعر الطيبة والنوايا المسالمة، ومن ثم تحقيق أكبر قدر ممكن من الأمن والاستقرار للمجتمع وبخاصة أن الفرد في الوقت الحاضر لا يمكنه أن يختار لنفسه سلب الحرية بصورة شاملة(19).
ويمدنا الواقع بخبرات في هذا الشأن مؤداها أن كثيرا من الأفراد لديهم القدرة على النظر بهدوء وثبات إلى الموت تعصبا وزهوا وخيلاء، أو يأسا وهروبا من الحياة والشقاء المحيط بهم، غير أن كل هذه المشاعر لا يمكنها أن تصمد أمام سلب الحرية، لأن الجاني لا يضع بالجريمة حدا لآلامه في الحالة الأخيرة وإنما يبدأ في مرحلة طويلة من الألم.
ومن التجارب المستفادة أيضا أن النفس تقاوم العنف إلى حد يجعل الآلام الجسدية الممعنة في الشدة لكنها وقتية أخف وطأة مما يفعله الزمن والسأم، فمثل هذه النفس العنيدة والقوية في مواجهة العنف لا تقوى على مقاومة الفعل الطويل من سلب الحرية الأمر الذي يجعل أثر هذا الفعل يرسخ في الذهن لدى الجاني فيتحقق الزجر، ويرسخ لدى أفراد المجتمع فيتحقق الردع. وعلى هذا يمكن القول وبثقة أن عقوبة الإعدام لا تحقق منفعة مستقبلية كتلك التي تحققها عقوبة سلب الحرية، فلو تجمعت كل لحظات التعاسة الناجمة عن عقوبة سلب الحرية لكانت على الجاني أشد قسوة من عقوبة الإعدام، أما أفراد المجتمع فإن عقوبة سلب حرية الجاني تستحضر الخوف لديهم مدة أطول تستمر بقدر استمرار فترة سلب الحرية هذه، ويصبح الأفراد في هذه الحالة مأخوذين بالتفكير في عقوبة سلب الحرية التي ستوقع عليهم في المستقبل إن هم اقترفوا الجرائم، وهم حين يفكرون هذا التفكير، فإن حال الجاني الذي سلبت حريته والماثلة أمامهم تعزز تفكيرهم هذا فيرتدعون بها أكثر من ارتداعهم بعقوبة الإعدام التي لا تشاهد سوى لحظة واحدة ثم تنتهي ويلفها النسيان لأن التأثر مرتبط بالفعل نفسه يدوم بدوامه وينتهي بانتهائه.   
وتوجد مفارقتان خطيرتان جدا يحدثها اللجوء المستمر لعقوبة الإعدام أولاهما أن العقل يجد صعوبة في التفريق بين اللجوء المستمر لعقوبة الإعدام وبين حالة الحرب التي تريق دماء البشرية، فالقانون بوصفه وسيطا لتهذيب نفوس الأفراد ينبغي أن لا يصبح مثالا أو أنموذجا ولو مصغرا للحرب. وثانيتهما أن العقل السليم يجد صعوبة في التوفيق بين حقيقة أن القانون يبغض القتل ويحذر الأفراد ويردعهم عنه ثم يأمر بارتكابه على هذا النحو.
6- الوصمة(20):
يفقد القانون الاحترام العام له إذا ما وصم فعل من الأفعال بأنه جريمة في الوقت الذي لا يكون فيه هذا الفعل جريمة لدى غالبية أفراد المجتمع، وبالإضافة إلى ذلك فإن هذا الإجراء يقلل من وصم الأفعال التي هي في حقيقة الأمر جرائم وتستحق الوصم.
ومن المفيد لأمن المجتمع واستقراره أن لا تكون العقوبات التي تؤدي إلى الوصم شائعة، لأن تكرار الفعل الخاص بالرأي من شأنه أن يضعف الرأي نفسه، وأن لا توقع على عدد كبير من الأفراد؛ لأن الوصمة التي تلحق عددا كبيرا من الأفراد ستتحول إلى شيء معتاد لا يصم أحدا.
7- فورية العقوبة:
تحقق العقوبة قدرا أكبر من العدل والمنفعة المستقبلية كلما كانت الفترة الزمنية التي تفصل بينها وبين الفعل الإجرامي قصيرة، وذلك من عدة وجوه:
أولا- تحمي العقوبة الفورية الجاني من عذاب القلق الشديد بسبب عدم وضوح مصيره.
ثانيا- يشكل سلب الحرية أو الحد منها عقوبة في حد ذاته ينبغي أن لا توقع قبل الإدانة(21).
ثالثا- يمثل تساهل القاضي وتأخيره للحكم بالعقوبة على شخص مسلوب الحرية مثلبا في العدالة وثغرة للتشكيك في نزاهة القاضي.
وإذا ما أخذت هذه النقاط الثلاث بعين الاعتبار، فإنه يجب عدم سلب حرية المتهم إلا بالقدر الذي يمنعه من الفرار ويمنعه من إخفاء أدلة الجريمة، ولأقصر مدة ممكنة قبل الحكم بالعقوبة.
والعقوبة الفورية لا تحقق العدل فقط، بل إنها تحقق أكبر قدر من المنفعة المستقبلية المرجوة من ورائها وذلك من الوجوه الآتية:
أولا- كلما كان الوقت بين الفعل الإجرامي والعقوبة قصيرا اجتمعت في الذهن فكرتا الجريمة والعقوبة واقترنتا بشكل أوضح، مما يؤدي إلى تكريس أثر العقوبة واستمراره في الذهن.
ثانيا- مع فورية العقوبة تصبح الجريمة والعقوبة مفهومين متلازمين كسبب ونتيجة يستحضر التفكير في أحدهما صورة الآخر.
ثالثا- تولد العقوبة الفورية انطباعا لدى الأفراد بأنها نتيجة غير قابلة للدفع أو الرد.
رابعا- تولِّد العقوبة الفورية رابطة شعورية بين اللذة والألم تدفع الأفراد إلى التفكير في الأمور البعيدة(22)، ذلك أن ضوء التركيز ينير شيئا واحدا في اللحظة نفسها ويترك الأشياء الأخرى في ظلام دامس.
إن تأخير العقوبة يتطلب من الشخص أن يربط ويوفق بين عدة أمور وفي مرة واحدة الأمر الذي يبقي بعض هذه الأمور في الظلام، في حين نجد أن هذا الربط والتوفيق أسرع وأدق في حالة العقوبة الفورية لكون الفواصل الزمنية بين الأحداث محل التفكير قصيرة، ومن هنا يستطيع تحديد النتيجة الأقل خطرا وألما، ومن ثم يرسم سلوكه على هذا الأساس.
8- يقين العقوبة – العفو:
يحدث اليقين بالعقوبة وإن كانت معتدلة أثرا أقوى في النفس من العقوبة القاسية المرتبطة بالأمل في الإفلات من العقوبة، وحتى عندما يتم العفو عن الجاني من قبل المجني عليه فإن هذا الأمر وإن كان يتفق مع مشاعر الخير والإنسانية، إلا أن إفلات الجاني من العقوبة يتعارض مع المصلحة العامة، فالحق في العقاب ليس خالصا للمجني عليه بل هو حق للمجتمع أيضا، وبالتالي فإذا كان  يمكن للمجني عليه أن يتنازل عن حقه فإنه لا يملك إلغاء حق المجتمع في عقاب الجاني. ومع أن العفو إجراء نبيل لكن المبالغة فيه ستتحول إلى نوع من التعويض عن غموض التشريعات وشدة العقوبات، وشيئا فشيئا حتى يبدو العفو لأفراد المجتمع وكأنه إجراء تعبر به السلطة التي تمنحه عن استهجانها للسلطة التشريعية والسلطة القضائية القائمة. ولتلافي هذه السلبية للعفو وحتى لا يصبح منحة خاصة ببعض الأحكام، لا بد أن يتم النص عليه في صلب القانون، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن عدم النص يتيح للأفراد أملا بأن الجرائم التي ينوون اقترافها يمكن أن تكون محلا للعفو عنها، أو أن العقوبة ليست ضرورية إزاءها. وهناك سلبية أخرى للعفو غير المقنن تتمثل في أن الأفراد سينظرون إلى عدم العفو في عقوبة حالية سبق أن عفي عن مثيلاتها في مرات سابقة بأنه نوع من التعسف وأن السلطة تضحي بالمصلحة العامة لإرضاء نوازعها وتحقيق مصلحتها الخاصة في العفو عن بعض الجناة، والسبب أنها اتخذت عملا خيريا غير مدروس.
والأفضل من العفو كعمل خيري يُوْرِثُ هذه السلبيات، أن ندع المشرع يكون رقيقا وإنسانا في الوقت الذي ينبغي فيه أن يكون القانون صارما لا يرحم أو يحابي، وأن يكون المنفذون صارمون في حدود القانون فقط. ولندع المصلحة العامة تكون نتيجة لمصالح كل الأفراد لا يملك فرد واحد، كائنا من كان، أن يتنازل عنها نيابة عنهم إلا في حدود القانون الذي ارتضوه جميعا.
9- التناسب بين الجرائم والعقوبات:
يفرز التوزيع غير العادل للعقوبات تناقضا خطيرا في الرسالة التي يريد المنظم (المشرع) أن يكرسها في الأذهان، ففي الوقت الذي يحارب القانون الجريمة نجده يدعو الأفراد إلى ارتكاب جرائم أكبر عندما يتم إيقاع العقوبة نفسها على جريمتين إحداهما بسيطة والأخرى خطيرة، ذلك أن الجناة لن يتورعوا في هذه الحالة عن ارتكاب الجرائم الخطيرة طالما استوت في العقوبة مع الجرائم البسيطة. ولتفادي هذا التناقض لا بد أن يقوم تناسب دقيق بين الجرائم والعقوبات، فلا توقع عقوبة مخصصة للجرائم الخطيرة إزاء جريمة من الفئة البسيطة.
إن من شبه المؤكد أن الجرائم تزداد كلما ازداد عدد المصالح المحبطة(23)، ولهذا يمكن القول إن كل شخص تقريبا يسهم في إحداث الخلل(24)، وهذا ما يجعل ضبط الجريمة وتوجيهها بحساب دقيق أمرا مستحيلا، ولهذا لا بد من التحسب لكل الاحتمالات وتوفير العقوبة الأشد(25).
10- كيفية منع الجرائم:
لا خلاف على أن منع الجرائم قبل وقوعها خير من العقاب عليها، وهذه غاية أي تشريع (تنظيم) جيد ومنطلقه، كما أن هذين الأمرين لا يتساويان في العقل إلا عندما يستولي على مقاليد الأمور من ليس بأهل لهذه الولاية، فمن الحقائق الدامغة أنه مهما بلغ القانون من دقة وإحكام فإنه لن يستطيع منع الاضطرابات والفوضى من خلال العقوبة بالقدر الذي يستطيعه قبل وقوعها.
إنه إذا كان يوجد دافع واحد يدفع الناس على اقتراف الجرائم الحقيقية(26)، فإن هناك الآلاف من مثل ذلك الدافع تدفع الناس إلى أفعال تسمى جرائم في نظر القوانين الفاسدة التي ليست أكثر من مجموعة امتيازات لفئة قليلة من البشر، وسيستمر نطاق التجريم في الاتساع على هذا الأساس لكي يتناسب مع عدد الدوافع التي تريد السلطة كبتها، وهذا الاتساع يزيد مع الزمن إلى أن يصبح كل شيء يحض الأفراد على الجريمة، وعندها لن يكون هناك وسيلة لمنع الجريمة سوى أن يُحْرَمَ الإنسان من أن يستخدم حواسه لو كان ذلك في مقدور السلطة التشريعية الفاسدة(27).
إذن، كيف يتحقق منع الجريمة بصورة أفضل؟.
لا شك أن منع الجريمة يتحقق كأفضل ما يمكن عندما تكون القوانين واضحة وبسيطة، ولا تميز بين الناس على أساس الطبقة أو المكانة، ويتحقق كذلك عندما تسير الحرية والانفتاح العقلي بالتوازي إلى الأمام ومن ثم تنتشر المعرفة بين أفراد المجتمع دون قيود على اكتسابها، ويتحقق المنع أيضا عندما تكون خشية الناس من القانون وليس من الأشخاص المتسلطين وراءه. إن هذه الأمور الإيجابية كلها تجعل السلطة تقوم على أسس منطقية تحميها من الاهتزاز المؤدي بدوره إلى فقد الأمن، وتجعل الأمة تتوحد من أجل الدفاع عن هذه السلطة التي جعلت الحرية المتبقية لدى الأفراد أكثر من تلك التي في يدها.
إن تجريم الانفتاح العقلي على العلوم يستند إلى اعتقاد واهم بأن العلوم تؤدي إلى الضرر دائما، وفي الحقيقة أن ازدياد أعداد البشر هو الذي يحدث الاضطرابات؛ لأن هذا الازدياد أدى إلى كثرة الحاجات مع غياب القانون العادل الذي كان بإمكانه لو وُجد أن ينظم حياة الناس بشكل أفضل، الأمر الذي استلزم إجراءات قاسية في محاولة لتنظيم البشر بعد هذا الانقلاب الاجتماعي الذي كاد أن يعيد البشرية إلى الحالة البدائية، وترافق ذلك مع حدوث أخطاء كنسية فظيعة جاءت بها المعتقدات الدينية الزائفة التي أوجدت عالم من الأرواح الخرافية تولت الحكم على الأرض(28).
لقد نتج عن تجريم العلوم والانفتاح العقلي عليها أن طغت أفكار خرافية لا فائدة منها، دفعت بالأفراد إلى العصبية العمياء، وإغلاق الفكر وكره الآخرين والرغبة في الإيذاء  (Offending Motivation) وأصبح العلم والمعرفة مصدرا للإيذاء، وهذا كله قد جعل بعض الفلاسفة يتحسرون على العصور المتوحشة(29)، التي تمثل الحقبة الأولى للإنسان، أما الحقبة الثانية التي نعيش بداياتها اليوم فهي مرحلة انتقال البشرية من الوهم إلى الحقيقة ومن الأخطاء إلى الصواب، ومن الغموض إلى الوضوح، ومن الظلام والكبت إلى النور والحرية. ولا شك أنه في مثل هذه التغيرات لا بد أن يكون هناك من يضحي حتى بحياته من أجل سعادة آخرين سيأتون بعده، ولا بد لهذه التغيرات أن تفرز عقولا متفتحة. وخير هبة يقدمها الحاكم إلى شعبه أن يجعل من أصحاب هذه العقول أمناء على التشريعات(30)، فهم الأقدر على البحث عن الحقيقة دون أن يخشوا منها، والنظر إلى أبناء الأمة نظرة إنسانية بوصفهم إخوة متساوين أمام التشريعات.
إن مما يحد من الجريمة أيضا أن تعمل السلطة على توجيه جهود القضاء وأهدافه برمته لمراقبة الأنظمة (القوانين) وليس الاحتيال عليها، وتشجيع الأعمال الفاضلة ونشرها وليس تجاهلها، وأن يقام التعليم على المبادئ التي تعود بالمنفعة الحقيقية على البشر، ومن تلك المبادئ أن تحل الموضوعات الأصلية محل الموضوعات الثانوية، وان يوجه الشباب إلى الفضيلة بأيسر الطرق وليس بالأوامر التي لا تؤدي إلا إلى طاعة صورية مؤقتة.
ب - جريمي بنثام (Jeremy Bentham, 1748-1832):
أقام بنثام فلسفته على مذهب المنفعة المستقبلية للعقوبة الذي جاء به بكاريا، وهذا هو القاسم المشترك بينهما بغض النظر عن توسع بنثام في فلسفته عن المنفعة، ومناداته بالقسوة في العقوبات لكبح جماح الاستنفاع الذي يرى أنه يسير الإنسان(31). فالإنسان في نظره لا يسلك سلوكا إلا ويقصد به منفعته الخاصة التي يجني بها مكسبا أو يدفع بها ضررا، إلى حد أن الإنسان لا يقول الصدق إلا لكي ينتفع من وراء تصديق الناس له، كما أن الإنسان يسعى دائما لتحقيق أكبر قدر ممكن من اللذة وتجنب الألم، ومن هنا يرى بنثام أنه ينبغي أن تكون مهمة التشريع هي تحقيق أكبر قد ممكن من اللذة الحسية والمعنوية للمواطن، وهذا هو مبرر القيود التي يضعها التشريع على حريات الناس، وبالتالي فإنه لا محل للعقوبة إلا إذا كانت تحقق منفعة لأكبر عدد من الأفراد، وما عدا ذلك فإن العقوبة تتحول إلى شر على من توقع عليه لا مبرر له، وشر على المجتمع يتمثل فيما يتكبده من نفقات.
وإلى جانب تركيز بنثام على ضرورة أن تحقق العقوبة منفعة اجتماعية، نجده لم يتجاهل أهمية تحقيق العقوبة منفعة للمحكوم عليه من خلال وظيفتها النفسية التي تظهر في تجربته المتمثلة في الموازنة بين منفعة الفعل الإجرامي والألم الذي ستصيبه به العقوبة، ومن هنا تكون للعقوبة منفعة مستقبلية لكونها زجرت الجاني عن معاودة اقتراف الجريمة، وردعت آخر عن الإقدام على أي فعل إجرامي، وفي كلتا الحالتين يتحقق للمجتمع مزيد من الأمن والاستقرار، وهذا ما دفع (بنثام) إلى المطالبة بتشديد العقوبة حتى تفوق نتائجها النهائية ما يمكن أن يحصل عليه الفرد من فائدة فعلية أو احتمالية نتيجة لسلوكه الإجرامي.
كان من أهم إسهامات (بنثام) في فلسفته عن الجريمة والعقوبة التوسع في تطبيق مذهب (بكاريا) عن المنفعة المستقبلية للعقوبة، وتوظيفه لهذا المذهب في مجال الدفاع الاجتماعي والوقاية من الجريمة قبل وقوعها وبعد، واعتماده لمبدأ اللذة والألم في تفسير السلوك، وقد وضع في سبيل ذلك الكثير من المؤلفات منها: "مبادئ الأخلاق والتشريع" و "التشريع المدني والجنائي" ويمكن تلخيص أهم أراء (بنثام) في الآتي:
1-          دوافع الجريمة: يؤدي الدافع إلى حدوث الفعل، فالفعل ليس مقصودا في حد ذاته وإنما نتيجته التي تحقق للفرد اللذة أو السعادة أو المنفعة بأقل قدر من الضرر أو الألم، ومن هذا المنطلق فإن الفرد يحسب نتيجة فعله بدقة ووضوح ثم يتخذ قرارا بالمضي قدما أو الإحجام عن تنفيذه، وهذا هو الهدف الأكبر لجميع الأفعال التي تربط بين أفراد المجتمع.
2-         الوقاية من الجريمة: يعتقد (بنثام) أن عنصر الردع الناشئ عن ألم العقوبة يعمل على الحد من الجريمة، وما لم توجد موانع عقابية مشرعة من قبل هيئة رسمية تحدد مصادر السعادة والوسائل المشروعة لتحقيقها، وتوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع؛ فإن الناس سيندفعون إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من اللذة والسعادة بشتى الوسائل، ومع ثقة (بنثام) شبه المطلقة في قدرة العقوبة القاسية على تحقيق الوقاية من الجريمة، فإنه لم يغفل الموانع غير العقابية كالتعاليم الدينية، والقيم والأخلاق.
3-          الدفاع الاجتماعي: يرى (بنثام) ضرورة إيجاد نظام للدفاع الاجتماعي تحدد فيه أنماط السلوك المقبولة والتي ينبغي أن تنحصر فيها تصرفات الأفراد على قاعدة أساسها المنفعة والمضرة، بحيث توضع قاعدة رقمية لقياس السلوك تتيح وضع وزن أو معيار محدد لكل فعل، ومن خلال بعض العمليات الحسابية يتم تحديد مقدار اللذة التي تحققت للجاني جراء فعله الإجرامي، ومقدار الضرر الذي سببه للمجتمع، ومن ثم توقع عليه عقوبة تتجاوز في ألمها ما حققه من لذة وتعالج ما أحدثه من ضرر للمجتمع.
ثانيا- المدرسة التقليدية الثانية (The second Classical School):
تعرضت المدرسة التقليدية الأولى لعدد من الانتقادات، كإغفالها للظروف الموقفية للجاني وقت اقترافه للجريمة، الشخصية منها والاجتماعية، ومما أخذ عليها أيضا مساواتها للجناة في مبدأ حرية الاختيار(32). لذلك ظهرت المدرسة التقليدية الثانية لتتلافى مثل هذه الأخطاء، وكان من أقطابها (أوروتولان (Ortolan و(روسي (Rossi و (جوينزو (Guizot وهؤلاء العلماء وإن كانوا يتبنون المبادئ نفسها التي نادت بها المدرسة التقليدية الأولى، فإنهم أضافوا بعض الأفكار الجديدة، ومن أكثرها علمية وشهرة تأكيدهم على أن حرية الإرادة والاختيار ليست مطلقة أو متساوية لدى جميع الأشخاص، ولهذا فلا بد من نظرة خاصة إلى شخص الجاني حتى يتحقق التناسب بين العقوبة ومقتضيات العدالة.(33)
لقد تأثرت المدرسة التقليدية الثانية بأفكار الفيلسوف الألماني (إيمانويل كانط  (Kant, Immanuel. 1724-1804)(34)، الذي أكد في كتابه (العناصر الغيبية لفقه القانون، 1796م) أن غاية العقوبة ووظيفتها هي إرضاء شعور العدالة لذاتها مجردة عن فكرة المنفعة، وذلك بإصلاح الأذى أو الضرر الذي أحدثته الجريمة في المجتمع، وإعادة التوازن الاجتماعي بالتكفير عنها، وقد ضرب على ذلك مثالا مشهورا يعرف باسم (الجزيرة المهجورة) ويتلخص في أنه لو فرض أن جماعة تقيم على جزيرة ما وقرر أفرادها هجر الجزيرة والتشتت، فيجب عليهم قبل أن يتركوا الجزيرة ويتفرقوا أن ينفذوا آخر حكم صدر على مجرم بينهم، فعلى الرغم من أن التنفيذ في هذه اللحظة يبدو انتقاميا ولا فائدة ترجى من ورائه لكون هذه الجماعة في طريقها إلى التشتت، فإنه مع ذلك إجراء ضروري لإرضاء شعور العدالة الكامن في الضمير الإنساني.
وبوحي من أفكار (كانط) هذه حاول أنصار المدرسة التقليدية الثانية أن يجمعوا بين فكرتي المنفعة والعدالة، أي التوفيق بين مقتضيات المصلحة الاجتماعية وإرضاء العدالة فقالوا إن وظيفة العقوبة وغايتها إرضاء العدالة بتهدئة شعور السخط والاستنكار العام، والدفاع عن المجتمع ضد الإجرام من خلال الزجر والردع، ونادوا بأن لا تزيد العقوبة عن الحد اللازم لتحقيق ذلك، ومن هنا ظهر اهتمام رواد هذه المدرسة بشخص الجاني وبواعثه على ارتكاب الجريمة، متلافين بذلك أهم الانتقادات التي وجهت إلى المدرسة التقليدية الأولى.


(1)   نعني بمصطلح " السلطة القروسطية" نسبة السلطة التي تتألف من هذه الفئات وتتصف بهذه الصفات إلى القرون الوسطى المظلمة، وسوف يستخدم الباحث هذا المصطلح من الآن فصاعدا، وفي حدود الدراسة، للإشارة إلى فئات هذا الإتلاف البغيض، وما تحمله من صفات سيئة.
(2)   الديماغوجيا (Dogmatism): تطلق هذه التسمية على حالة يتمسك فيها صاحبها بمبدأ معين ويؤمن بصوابه دون أن يستند إلى دليل أو يتساءل عن صحة ما يؤمن به، فهو يثق بأن عقله قد أدرك الحقيقة كما هي. وهذه الحالة  تعبر عن جمود عقلي وانغلاق فكري وتصلب في الرأي ، وقطع بصحة المعتقد أو المبدأ بناء على مقدمات غير ممحصة تمحيصا وافيا. ولمزيد من الاطلاع، أنظر: (بدوي، أحمد زكي. معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية. 1977م، ص 116).
(3)   من المهم جدا عدم التعميم في الحكم على الفكر الإغريقي كله بالسوء، فمن يتتبع التراث الإغريقي لا يمكنه إلا أن يقتنع بأن بعض جذور الفكر المرضي الذي ساد في العصور الوسطى  تعود إلى  بعض مراحل سيئة في العصور الإغريقية وليس إلى العصور الإغريقية كلها، ذلك أن المرحلة التي سبقت انهيار روما كانت مرحلة عامرة بازدهار فكري واتجاه حقيقي نحو تفسير الظواهر والأحداث بعيدا عن الميتافيزيقا الخرافية، غير أن سقوط روما ونشأة الممالك البربرية في أوربا قضى على هذا الازدهار وانحدر بالفكر والعلوم والمعارف بعامة، الأمر الذي بعث الأفكار التي كانت سائدة في أسوء مراحل العصر الإغريقي وما قبله، ومن ثم امتزجت بالأفكار الكنسية المتشبعة بالجهل والتخلف ومشاعر الاحتقار ونظرة التعالي التي تلف باقي فئات (السلطة القروسطية) تجاه أفراد المجتمع، فأصبحت الصورة العامة للفكر في مرحلة القرون الوسطى خليطا من أسوأ ما في العصور القديمة والوسطى.
(4) هذه المحاكم تهدف إلى الانتقام من الجاني أو "تطهيره" بالعقوبات البدنية القاسية، بالإضافة إلى الغرامات المالية التي كانت تدفع لكل من الدولة (الملك-الملكة) أو الإقطاعي، وكانت تدفع حتى للكنيسة نفسها، وقد كانت هناك ثلاثة أنواع من المحاكم هي: محاكم الملك أو الملكة، المحاكم الكنسية، محاكم الإقطاعيين.
(5) يمكن أن نستخلص من الأدبيات حول تبادل المصالح بين فئات (السلطة القروسطية) أنه وإن اختلفت هذه الفئات بفعل  تنافسها على بسط النفوذ فإنها لا تختلف عندما يتعلق الأمر بالقسوة على أفراد المجتمع بعامة، وتعذيب الجناة بخاصة.
(6)(Jean Marquiset)  أستاذ القانون الجنائي سابقا في جامعة السوربون  بفرنسا.
(7) لمزيد من الإطلاع والحصول على وصف دقيق  لبعض العقوبات القاسية التي خلقت قناعة (الانتقام بالدم)، أنظر: ماركيزيه، جان "الجريمة" ، ترجمة (عيسى عصفور 1983م)، وانظر كذلك: فوكو، ميشيل. "المراقبة والمعاقبة .. ولادة السجن" ترجمة (علي مقلد 1990م).
(8)  روح القوانين هو رائعة (مونتسكيو)، ويقع هذا المؤلف في (31) جزءا صدرت على مدى عشرين عاما. وتضمنت الأجزاء الثلاثة عشر الأولى نظريته عن الحكم والتي يرى فيها أن الحكومات قد تكون ديمقراطية (Democracy)، أو قد تكون أرستقراطية (Aristocracy) ولكنها تتشرب بمبادئ الفضيلة (احترام القانون -  الالتزام برفاهية الجماعة)، أما الحكم المطلق في ظل الاستبداد فهو يتطلب خلق مشاعر خوف واسعة النطاق وهي دلالة على الفساد، كما أن هذا النوع من الحكم سينتهي حتما إلى افإنهيار.
      أما مجموعة الأجزاء (14- 18) فيتحدث فيها عن تأثير العوامل الطبيعية والمادية على المجتمعات مؤكدا على أن المجتمع يتشكل وفقا لمجموعة متعددة من العوامل كنوع الحكم، والتاريخ، والقوانين، والعقيدة الدينية، والبيئة الطبيعية. وتختلف أهمية كل عامل من هذه العوامل من مجتمع إلى آخر، أي أن تأثير هذه العوامل في تشكل المجتمع تأثير نسبي.
      وفي الجزء التاسع عشر تناول ما أسماه بروح الأمة وهي الثقافة (Culture)، أما مجموعة الأجزاء (20- 28) فقد بحث فيها تأثير كل من الدين والسكان والتجارة على الظواهر الاجتماعية والقانونية. وتناول في الجزء التاسع والعشرين صياغة القوانين، أما الجزءان (30، 31) فقد تناول فيهما التشريع الروماني والإقطاعي.
      إن مبادئ العدالة عند (مونتسكيو) تنشأ نتيجة للمساواة الطبيعية بين الناس، وقد انطلق من هذا المفهوم للعدالة للتنديد بالاضطهاد الديني، والعبودية، والاستبداد باعتبارها تتعارض مع القانون الطبيعي. ولقد كان لتأكيد (مونتسكيو) على أهمية الثقافة والقيم النسبية أو نسبة تأثير العوامل التي تتشكل على أساسها المجتمعات، والمساواة بين البشر، وتقديمه للمشاهدة الإمبريقية على الميتافيزيقيا والعقلانية،أثرا كبيرا في بداية عصر التنوير.ولمزيد من الاطلاع، أنظر (مان، ميشيل (1991م) ص ص 465-467.    
(9) هذا المبدأ موجود في الفكر الإسلامي  وتجلى تطبيقه بوضوح في عهد الخليفة عمر بن الخطاب قبل أكثر على 1400سنة.
(10) وجد هذا التحديد في شريعة حمو رابي سنة 1875 قبل الميلاد، ووجد كذلك في الشريعة الإسلامية تجاه بعض الجرائم.
(11) هذه الطريقة هي الطريقة الرئيسة المتبعة في الدراسات التي تجرى في حقل علم الإجرام والعقاب ومنها هذه الدراسة.
(12)  ينبغي على المسلم أن ينظر إلى هذه القوانين بوصفها قوانين أودعها الله تعالى في الكون وفي خلقه جميعا.
(13) أفردنا لنظرية العقد الاجتماعي مطلبا مستقلا، أنظر ص ص "27-40"  من هذه الدراسة.
(14) ولد بكاريا في ميلانو بإطاليا، وأسمه الحقيقي ( بوناسينا دي مارتشيزي   Bonasena de Marchese) وكان مهتما في حياته الأولى بالرياضيات والاقتصاد لأنه من أبناء الطبقة الارستقراطية وكانت عائلته تحضره لدخول عالم المال والأعمال، لكن اتصاله بالأخوين (Ferri) هو الذي غير اتجاهه.  أكمل (بكاريا) تعليمه الجامعي بجامعة بافيا، ولم يكن طالبا متميزا في المراحل المبكرة من دراسته غير أن دراسته في تلك الجامعة مكنته من زيادة الاطلاع على إنتاج عدد كبير من المفكرين والفلاسفة وفي مقدمتهم فلاسفة العقد الاجتماعي. حصل على درجة الدكتوراه وهو في العشرين من عمره ثم انضم إلى جماعة أكاديمية القبضات (Academy of Fists) التي تطالب بإجراء إصلاحات قانونية واسعة، وفي هذه الجماعة تأثر بالأخوين فيري (Ferri): بيترو وأليساندرو، ولما كان الأول يعمل قاضيا والثاني يعمل في أحد السجون بإطاليا فقد استطاع بكاريا أن يعرف بواسطتهما كثيرا من مواطن الفساد في نظام العدالة الجنائية الإيطالي في ذلك الوقت، وتأثر تأثرا شديدا بما كان يقترفه القضاة من أعمال الفساد فاقترح عليه زملاؤه كتابة مقالة حول القانون الجنائي. وهكذا ولدت الفكرة لترى النور عام 1764م من خلال كتاب أسـماه "محاولة في الجرائم والعقوبات"  (An essay on Crimes and Punishments) ونشره تحت اسم مستعار خشية الملاحقة الأمنية والقضائية. وقد كان لهذا الكتاب وقع شديد في أوربا، وحظي بالإعجاب الشديد من قبل الفلاسفة والعلماء والمفكرين حتى اليوم. ولمزيد من الاطلاع حول فكر بكاريا وسيرة حياته، أنظر: (بكاريا. الجرائم والعقوبات. ترجمة يعقوب حياتي، 1985م ص 13)، وانظر كذلك  (كاره، عبد المجيد. مقدمة في الانحراف الاجتماعي، 1985م ص ص 95-96)، وانظ أيضا: (الوريكات، عايد. نظريات علم الجريمة، 2004م ص ص 59-60)
(15) تمت صياغة هذا المستخلص بأسلوب الباحث مع المحافظة على المعنى بشكل تام وواضح.
(16)  من الواضح أن بكاريا سبق بزمن طويل أصحاب النظريات التي تجعل من التغير الاجتماعي والحضاري سببا لظهور عدد من عوامل الإجرام. فعلى سبيل المثال نجد العالم اميل دوركايم (E. Durkheim,1858-1917) يربط الإجرام بنوعية التضامن السائد في المجتمع فيرى أن الإجرام يزداد كما ونوعا في المجتمعات الأكثر تغيرا حضاريا بسبب زيادة العقلانية والفردية، واتساع تقسيم العمل وما ينتج عنه من تعدد الحرف واتساع العلاقات والتفاعل الاجتماعي، وتحول العلاقات بين أفراد المجتمع إلى نوع من التضامن العضوي ذي العلاقة الجزئية المعتمدة على المصلحة الذاتية والوظيفة المهنية، بينما يقل الإجرام كما ونوعا في المجتمعات المتأخرة في تغيرها الحضاري والتي لا زالت العلاقة بين أفرادها علاقة تقوم على التضامن الآلي الميكانيكي المعبر عن الشعور الجمعي والتجانس الثقافي، ولا يزال تقسيم العمل فيها يعتمد على العمر والجنس، وتستند العلاقة فيه إلى القرابة والولاء للضمير الجمعي. وبعض العلماء ينظرون |إلى الجريمة الجديدة والمستجدة  والصراع القيمي الثقافي على أنها من الظواهر التي تمثل كلفة التغير الاجتماعي، ويمكن أن تلحظ العلاقة بسهولة بين التغير الاجتماعي والحضاري في مواطن كثيرة. ولمزيد من الاطلاع على العلاقة بين الجريمة والتغير الاجتماعي والحضاري، أنظر:
     - أبو توتة، عبد الرحمن. علم الإجرام. الإسكندرية: المكتب الجامعي الحديث، 1999م.
     - جعفر، علي. علم الإجرام والعقاب. بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع،  1992م.
     - الدوري، عدنان. أساب الجريمة وطبيعة السلوك الإجرامي. الكويت: ذات السلاسل، 1984م.
     - طاب، أحسن. الجريمة والعقوبة والمؤسسات الإصلاحية. بيروت: دار الطليعة، 2002م.
     - عمر، معن. علم المشكلات الاجتماعية. عمان: دار الشروق، 1998م. =
     - عمر، معن. التغير الاجتماعي. عمان: دار الشروق، 2004م.
           -  Sutherland, Edwin & D. Cressey: Criminology, Philadelphia, J.B. Lippincott. 1978
(17) يتخوف بكاريا من التفسيرات المبررة للأحكام الجائرة بدعوى الفهم الصحيح لما يقصده المشرع من وراء فقرة غير واضحة في النظام (القانون) لذلك فلا بد أن يكون النظام واضحا لا لبس فيه.
(18) تعد هذه الدعوة من أكثر المبادئ التي فهمت وفسرت بشكل خاطئ على غير ما قصده (بكاريا)، فقد عدها الباحثون والعلماء دعوة لأن تكون العقوبات قاسية، على الرغم من أن (بكاريا) قد شرح ما يقصده حين أكد في أكثر من موضع في كتابه "الجرائم والعقوبات" أنه لا يدعو لأن تكون العقوبات قاسية في مواجهة كل الأفعال، بل إن غاية قصده هو أن لا تطبق عقوبة قاسية في مواجهة كل الأفعال وإنما تتدرج العقوبات بحسب شناعة  الفعل الإجرامي، بل إنه يمكن أن نعد كتاب (بكاريا) برمته صرخة في وجه العقوبات القاسية.
(19)  من الواضح أن بكاريا يقصد بعدم الاختيار هنا أن الحياة أصبحت ممتعة إلى حد يجعل الفرد السليم يفكر كثيرا قبل أن يقدم على فعل إجرامي يحوله إلى سجين محروم من متعة الحياة الحرة.
(20)  استخدم (بكاريا) مسمى الوصمة في الوقت الذي يدل مضمون ما كتبه تحت هذا العنوان على أنه يقصد وصف الفعل بأنه جرمي ووصم مقترفه بأنه مجرم (Labeling)، لهذا فقد كان من الأفضل لو أنه استخدم مسمى (التجريم والوصم). وعلى كل حال فإن (بكاريا) سبق إلى هذا المصطلح وفلسفته كل العلماء في مجال علم النفس الاجتماعي وعلماء نظرية التفاعل الرمزي الذين كتبوا عن الوصم بالانحراف وعن انعكاس الذات على مرآة المجتمع  ومن ذلك ما كتبه العالم ( تاننبوم Frank , Tannenbaum) عام 1938م وما كتبه العالم (ادون ليمرت  Edwin Lemert) عام 1948م وما كتبه العالم (تشارلس كولي C. H. Cooley)  خلال الفترة من 1902- 1930م ولمزيد من الاطلاع حول ما كتبه ( تاننبوم و لميرت أنظر: كاره مصطفى. مقدمة في الانحراف الاجتماعي. بيروت: معهد الإنماء العربي، 1985م. واظر بشأن ما كتبه كولي: (عمر، معن. نقد الفكر الاجتماعي المعاصر. بيروت : دار الآفاق الجديدة 1982م).
(21) يقصد (بكاريا) ما يسمى اليوم بالتوقيف أو السجن على ذمة التحقيق، وهي الفترة التي يقضيها المتهم في السجن قبل المحاكمة وصدور الحكم.
(22)  يقصد (بكاريا) بالأمور البعيدة: عواقب الجريمة وفي مقدمتها ألم العقوبة.
(23)  كان من أهم الانتقادات الموجهة للمدرسة التقليدية الأولى أنها تعيد الجريمة إلى الإرادة وحرية الاختيار، لكن الباحث يرى أن معنى هذه الجملة عند (بكاريا) يدحض هذا الزعم أو الانتقاد من أساسه، إذ من الواضح أن أراء (جيرمي بنثام) قد أفسدت كثيرا من رؤى ومبادئ (بكاريا) عندما تم تصنيفهما سويا كرائدين للمدرسة التقليدية الأولى ووجه النقد لكليهما في هذه النقطة بالذات في الوقت الذي كان ينبغي أن يوجه فيه النقد لـ (جيريمي بنثام). وهناك مسألة أخرى في هذه الصدد على جانب كبير من الأهمية وهي أن (بكاريا) سبق (روبرت ميرتون Robert Merton 1910-) حين قدم نظريته عن انفصال البناء الثقافي “Cultural Structure  والذي يتكون من المعايير والقيم “Norms and Values  والأهداف الأساسية لأفراد المجتمع “ Main goals عن البناء الاجتماعي “Social Structure  الذي يحدد أنماط العلاقات السائدة في المجتمع “Types of relations” وطرق الوصول إلى الأهداف داخل كل مجتمع من المجتمعات”Means to achieving goals  والتي صاغها خلال الأعوام من 1949-1968م، فهذا الانفصال جاء نتيجة لإحباط الأهداف، وهذا ما عناه (بكاريا)على وجه التحديد إذ ليس من الممكن أن يفسر معنى كلام (بكاريا)عن علاقة الإحباط بالجريمة تفسيرا صحيحا بغير هذا. ولمزيد من الاطلاع على تنظير (ميرتون) حول هذه النقطة والمقارنة بينه وبين فلسفة بكاريا هذه أنظر: (طالب، 2002م ص ص 104-111).
(24) من الواضح أن (بكاريا) يقصد بالخلل هنا الإحباط الشديد المؤدي إلى الجريمة، وأنه يقصد بالتعميم الظاهر  في جملة "كل شخص تقريبا" أن المحبط وصانع الإحباط يشتركان في صناعة عوامل الجريمة وزيادة شدتها.
(25) يتضح من سياق كلام (بكاريا) أنه يقصد بعبارة "توفير العقوبة الأشد" ادخارها لوقت الحاجة وعدم ابتذالها بكثرة الاستعمال، وليس المعنى الذي تبادر إلى أذهان بعض الباحثين بأنه يقصد استخدام العقوبة الأشد دائما وجعلها جاهزة للاستخدام في مواجهة كل الجرائم.
(26) من الواضح أن (بكاريا) يقصد بمسمى"الجرائم الحقيقية" أي فعل متفق على تجريمه في كل زمان ومكان، وبهذا يكون (بكاريا) قد سبق الباحث الإيطالي (روفائيلو غاروفالو Roffaelo Garofalo, 1852-1932) إلى هذه التسمية على الرغم من أن العلماء والباحثين ينظرون إلى (غاروفالو) على أنه أول من قسم الجرائم إلى جرائم حقيقية وجرائم مصطنعة. وفي نظرنا أن ما يحسب لغاروفالو هنا هو توسعه في شرح هذا التقسيم  أما السبق إلى هذا التقسيم  فيعود (لبكاريا) . ولمزيد من الإطلاع على شرح (غاروفالو) لهذا التقسيم، أنظر: (طالب، أحسن. 2002م، ص ص 28-30).
(27) يشير (بكاريا) هنا إلى أن السلطة التنظيمية (التشريعية) ترتكب خطأ فادحا عندما توسع نطاق التجريم لتحمي مصالح خاصة لفئة من المنتفعين على حساب حرية باقي أفراد المجتمع، وهذه الحالة كانت سائدة في مجتمع (بكاريا) آنذك والتي استمرت إلى نهاية القرن الثامن عشر تقريبا.
(28) من الواضح أن بكاريا قصد بإدخاله لموضوع العلم في هذه الفقرة الحث على قبول العلوم الجديدة التي كانت الكنيسة والسلطة القروسطية تحاربها، فهو يريد توظيف هذه العلوم لتنظيم المجتمع والوقاية من الجريمة حتى تتخلص هذه الجوانب من سيطرة الفكر الخرافي.
(29) من المؤكد أن بكاريا يقصد جان جاك روسو (J.J. Rousseau, 1712-1778) فهو الفيلسوف الذي وصف العصر الإنساني البدائي أو المتوحش بأنه عصر الحرية الحقيقية وأنه يمثل العصر الذهبي للإنسان (Golden Age).
(30) حبذا لو أن بكاريا قال: [أمناء على التشريعات، تشريعا وقضاء وتنفيذا]، لأن استشراء الفساد في أي من هذه السلطات يعد مؤشرا على  وجود الفساد في السلطتين  الأخريين.
(31) من هذه النقطة على وجه التحديد انطلقت الانتقادات الموجهة إلى المدرسة التقليدية الأولى، ومن هنا أيضا تم الخلط بين فلسفة (بكاريا) وفلسفة (بنثام)، فظهر كما لو أن  لهما الخطأ نفسه، في حين أن (بكاريا) لم يشارك (بنثام) هذه النظرة مطلقا.
(32)  لم يَغفل (بكاريا) عن هذه النقطة ولا عن الفوارق بين الأفراد في حرية الاختيار، وقد كان من الإنصاف أن تنسب هذه الغفلة إلى (بنثام) لوحدة.
(33)  هذا ما نادى به (بكاريا) في الفقرة المتعلقة بالتعذيب وكذلك الفقرة المتعلقة بالتناسب بين الجرائم والعقوبات ، لذا فقد كان من الإنصاف لو أن فلاسفة المدرسة التقليدية الثانية ومن جاء بعدهم في الاتجاه العلمي (الوضعي) نزهوا (بكاريا) عن مثل هذا الخطأ ونسبوه إلى (بنثام) صاحب الفكرة  وصاحب المطالبة بقسوة العقوبات في مواجهة جميع الجناة دون تفريد.
(34)  قَبِلَ هذا الفيلسوف الألماني بإنكار التجريبيين(أصحاب العقلية العلمية التجريبية) للأحكام التلقائية الارتجالية السابقة على التجربة فقد ظل دائم الإصرار على أن المعرفة لا تستمد من التجربة فقط وإنما يقوم العقل أيضا بتشكيلها. ولمزيد من الاطلاع،  حول حياة كانط ومؤلفاته ، أنظر: (مان، ميشيل. مرجع سابق، ص ص 351). 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق