الأربعاء، 31 أغسطس 2011

مقدمة

لحقب طويلة من الزمن خلت المجتمعات من أي معنى للعدالة الجنائية، فاتسمت العقوبات حينها بالظلم والشدة والقسوة، بل بالوحشية، وغالبا ما انحصرت أهدافها آنذاك  في إطار الانتقام من الجاني وإيلامه والتنكيل به، وكان اتجاه القسوة هذا مرتبطا، أصلا، ارتباطا قويا في نشأته واستمراره، وزواله كليا أو جزئيا بالفلسفة السائدة في المجتمع حول الجريمة نفسها، فقد كان تفسير السلوك الإجرامي يستند على مفاهيم غير عقلانية، واستتبع ذلك ظهور أنماط عقابية تعتمد بالدرجة الأولى على العقوبات البدنية، وأدى ذلك إلى معاناة شديدة للمجتمعات من العقوبات الماسة بإنسانية الإنسان والحاطة من كرامته. ومع تقدم الفكر الإنساني تغير تفسير السلوك الإجرامي باتجاه الموضوعية والعقلانية، وتبعا لذلك بدأ الفكر الإنساني يتساءل عن المنفعة من العقوبة، وهل هذه العقوبة تفيد في شيء مضى وانتهى يمثله الفعل الإجرامي؟ وهل ينبغي أن تعود هذه المنفعة على الجاني أم المجني عليه أم المجتمع ككل؟ وهل الانتقام من الجاني والتنكيل به من خلال العقوبات يحقق هذه المنفعة؟، ومن هذه النقطة على وجه التحديد ظهر مصطلح العدالة الجنائية.


وقد أجابت الشرائع السماوية – في صورتها الصحيحة - قبل الاتجاه الوضعي على هذه التساؤلات بما يؤكد دون شك أن هدف العقوبة هو إقامة شرع الله وحفظ الحقوق وتحقيق منفعة مستقبلية للفرد الجاني وللمجتمع.

وعلى المستوى الوضعي أجابت مختلف الاتجاهات الفلسفية والعلمية على هذه التساؤلات، فتشكل اتفاق تام بين كل الثقافات على أنه ينبغي أن تكون للعقوبة منفعة مستقبلية تتمثل في إصلاح الجناة ومكافحة الجريمة وليس مكافحة المجرم في حد ذاته، أي أن المجتمع في حرب على الجريمة وليس في حرب على المجرم، كما أن العقوبة في حد ذاتها، رغم ضرورتها، لا تفيد في شيء وبخاصة إذا تعلق الأمر بفعل إجرامي حدث وانتهى، فهي على سبيل المثال، لن تعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل وقوع الفعل الإجرامي، ومن هنا اكتسبت فائدة العقوبة صفتها المستقبلية، أما المستفيد من هذه المنفعة فينبغي أن يكون بالدرجة الأولى المجتمع بأسره، ثم بعد ذلك الفرد الجاني نفسه.

أما من حيث الوسيلة التي تتحقق بها المنفعة المستقبلية للعقوبة، فلا تزال مثار اختلاف وتناقض شديد، فعلى الرغم من الاتفاق التام بين المنظرين وعقلاء المجتمع وبين السياسات العقابية على أن هذه المنفعة لا تتحقق بمجرد الانتقام من الجاني، ولا التنكيل به والحط من كرامته الإنسانية، فإن المنظرين والباحثين ومخططي السياسات العقابية، لم يتفقوا بشكل تام على الوسائل المثلى الموصلة إلى هذه المنفعة، فنجد مثلا أن بعض النظم العقابية ترى أن الوسيلة المثلى لتحقيقها هي قبل كل شيء المعاملة الإنسانية للجناة (الاتجاه الإنساني في العقاب) ويتم ذلك أولا بالإقلاع عن العقوبات البدنية (Punishments Physical)، والتوجه إلى إصلاح الجاني وإعادة تأهيله، من خلال برامج علمية موجهة إلى تعديل إرادته الإجرامية، تتضمن جهودا وقائية وعلاجية وتأهيلية، وجهودا للرعاية تمتد إلى ما بعد خروجه من السجن، وجهودا لحل مشاكله الذاتية والاجتماعية التي دفعت به إلى السلوك الإجرامي. كل ذلك كي لا يعود إلى ممارسة الجريمة؛ لأن هذا هو جوهر المنفعة المستقبلية للعقوبة.

ولما كانت هذه البرامج والجهود تحتاج إلى وسيلة عقابية، تسمح بوضع الجاني في ظروف مكانية وزمانية لتنفيذها؛ فقد أصبحت عقوبة السَّجن في العصر الحديث هي العقوبة الرئيسة السائدة في كل المجتمعات، وتقترن هذه العقوبة في بعض الدول بعدد من العقوبات البدنية على اعتبار أن العقوبات البدنية لا تتعارض مع الاتجاه الإنساني في العقاب، ولا تعيق البرامج المخصصة لإصلاح الجناة وإعادة تأهيلهم كهدف من أهداف العقوبة، إضافة إلى ارتباط هذه العقوبات بالمنظور الديني الخالص.

وبغض النظر عن هذه الاختلافات فإن المنفعة المستقبلية للعقوبة تمثل إطارا عاما تنضوي ضمنه كل أهداف العقوبة العادلة، وهي غاية تسعى إليها جميع السياسات العقابية مهما اختلفت وسائلها لبلوغ هذه الغاية، فهي جميعا تتوخى من عقوباتها تحقيق أهداف اجتماعية محددة، وهذه الأهداف تكاد تكون مشتركة، ومن أهمها:

1-          حفظ المصالح العامة والخاصة، والمحددة في الشريعة الإسلامية بالنفس، والدين، والعقل، والنسل، والمال، وهذه المصالح في الأصل حاضرة في جميع السياسات العقابية وإن اختلفت صياغاتها اللفظية أو القانونية.

2-          تحقيق العدل وتثبيت التوازن  بين الحقوق والواجبات؛ لأن هذا التوازن يختل بسبب الأفعال الإجرامية، وقد يختل بصورة أكبر عند العود إلى الجريمة.

3-          حماية المجتمع نفسه بزجر الجاني وردع غيره.

4-          تقويم الجاني وإصلاحه بما يؤهله للعودة إلى الحياة السوية في الوسط الاجتماعي الطبيعي الذي يتواجد فيه.

5-          الوقاية من الجريمة، فالعقوبة إذا استطاعت إقناع الجاني نفسه بعدم العودة إلى السلوك الإجرامي نهائيا وإقناع غيره بعدم فائدة أو جدوى الجريمة، فإن غرض الوقاية قد تحقق.

العقوبة إذن تكون ذات منفعة مستقبلية بقدر ما تحققه من هذه الأهداف المستقبلية، ومما لا يرقى الشك إليه، أن العقوبة تكون ذات مضرة آنية ومستقبلية على الجاني وعلى المجتمع وأمنه واستقراره، حين تفشل في تحقيق المنفعة المستقبلية المتوخاة من ورائها. وفي المقابل فمن الطبيعي أن يتم التركيز على عقوبة بعينها عندما يتوفر ما يؤكد أنها تحقق من تلك المنفعة ما لا تستطيع أن تحققه عقوبة أخرى ذات طبيعة أخرى أو بديلة للفعل نفسه،

لقد بات في حكم المؤكد علميا الآن، أن المجتمع يسهم بشكل كبير في إفراز الظروف المناسبة لظهور الجريمة وبروز الشخصية الإجرامية، ومن هنا بات لزاما على المجتمع نفسه أن يوفر الشروط والإجراءات المناسبة لمواجهة الجريمة والدفاع عن كيانه من خلال رد فعله تجاه السلوك الإجرامي.

ورغم ما يسود المجتمعات اليوم، وبخاصة في أوساطها العلمية، من إقرار بدور المجتمع في إفراز العوامل المؤدية لظهور الجريمة والانحراف فإن المجتمعات لا زالت تختلف في ردة الفعل الرسمية وغير الرسمية تجاه الأفعال الإجرامية والانحرافية، وتختلف أيضا في مدى ما تتميز به ردة الفعل الرسمية من تقنين في إطار السياسة الجنائية للدولة، وكلما كانت ردة الفعل (العقوبة) تنبثق من الوعي بمعطيات العلم والتشريع السوي زاد ذلك من شعور أفراد المجتمع بوجود العدالة الجنائية وفاعليتها في الوقاية من الجريمة وإصلاح الجناة والمنحرفين، وعلى العكس من ذلك نجد أنه كلما كانت ردة الفعل تنبثق من الجهل بمعطيات العلم، أو تستند إلى اجتهاد القاضي في إنشاء الحكم وليس استنباطه، أو تستند إلى الأحكام التصورية لا التشريع المحكم والواضح؛ فإن العدالة الجنائي تصبح مسخا هجينا لا يخدم سوى فئة معينة من أفراد المجتمع، أو تنتفي كليا.

وعلى الرغم من هذا الاختلاف فإننا نجد أن التفكير العقلاني يقدم شواهد على أن جميع السياسات الجنائية الرسمية تسعى إلى تحقيق منفعة مستقبلية من وراء العقوبة عبر العدالة الجنائية، وتتجلى هذه المنفعة في تعديل سلوك الجناة وإيجاد حلول لمشكلاتهم وإكسابهم المهارات الأخلاقية والنفسية والاجتماعية والمهنية التي تمكنهم من العيش في حياة سوية داخل الوسط الاجتماعي الطبيعي، بغض النظر عما إذا كانت بعض هذه السياسات لا تدرك بشكل يقيني أن هذه المنفعة تشكل محورا رئيسيا في بنائها وتشكل العمود الفقري للعدالة الجنائية. والمؤكد أن السياسات الجنائية الأكثر توظيفا لمعطيات العلم والمعرفة في مجال الوقاية من الجريمة، ومجال العقوبة وإصلاح الجناة - تدرك هذه الحقيقة العلمية، "المنفعة المستقبلية للعقوبة"، بدليل أن معظم السياسات الجنائية في وقتنا الحاضر قد تخلت عن فكرة العقوبة من أجل العقوبة، أو اقتصار العقوبة على تحقيق أهداف الانتقام والثأر (Vengeance) من الجاني، وباتت تعطي للعدالة الجنائية جل اهتمامها.

ويدعم هذا التوجه الإصلاحي كون القناعة أصبحت الآن راسخة لدى القائمين على وضع السياسات الجنائية بأنه لا يمكن القضاء على الجريمة تماما مهما كانت المواجهة والمكافحة الميدانية والاحتياطات الأمنية محكمة، ومهما كانت مختلف ردود الأفعال المجتمعية تجاه الجناة وصمية وقاسية، فقد وجدت الجريمة حتى في المجتمعات التي نعمت بعهد الأنبياء والرسل، ووجدت أيضا لدى المجتمعات التي كانت لديها عقوبات مفرطة في القسوة إلى حد الوحشية، وإزاء هذه المسلمة فإن المجتمعات لا تملك سوى محاولة التقليل من أعداد الأفراد المبتدئين أو المنخرطين في الأفعال الإجرامية، من خلال سياسة وقائية بالدرجة الأولى، والتقليل من أعداد العائدين إلى الجريمة من خلال سياسة جنائية توظف معطيات العلم والمعرفة في التعامل مع الجناة وتغلبها على الأفكار التصورية والأحكام المسبقة، وتكريس العدالة الجنائية لخدمة أفراد المجتمع كافة.

يمكن القول إن السياسة الجنائية المؤطرة للعدالة الجنائية تكون قاصرة عندما تركن إلى العقوبات لوحدها في مواجهة الجريمة، وتنطلق في ممارساتها هذه من فكر يركز فقط على الفعل الإجرامي ذاته، وهو ولا شك فكر ثبت عقمه. وعلى العكس منها تأتي السياسة الجنائية المتكاملة التي وسعت من دائرة اهتمامها لتشمل الجاني أيضا، الأمر الذي جعلها تنظر إلى المستقبل عندما تعاقب، وليس فقط إلى الماضي الذي يمثله الفعل الإجرامي، وهي بهذه النظرة المستقبلية تجعل عقوباتها عقوبات إصلاحية مواكبة للتغيرات السريعة في كافة أوجه الحياة، وقابلة لاختبار فاعليتها بين وقت وآخر، وهذا الاختبار أكثر إلحاحا في المجتمعات التي تطبق أنواعا متعددة من العقوبات.

يؤدي بنا هذا إلى القول بأن المنفعة المستقبلية للعقوبة هي عماد العدالة الجنائية، ولا يمكن أن تتحقق هذه المنفعة بالنظر إلى الماضي فقط فالفعل الإجرامي يكون قد حدث وانتهى، وإنما بالنظر إلى المستقبل أيضا، وفي إطار هذه النظرة إلى المستقبل يتم انتقاء العقوبة الأكثر تجانسا وتآزرا مع البرامج الإصلاحية لتحقيق المنفعة المستقبلية للعقوبة، وهذا ما يعد ضروريا لتحقيق الأمن العام، ويعطي للعقوبة مشروعيتها، وأي عقوبة تجاوزت ذلك فهي عقوبة غير عادلة، وتصبح من قبيل الانتقام والتعسف والجور، وعندها تنتفي العدالة الجنائية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق