الثلاثاء، 15 يناير 2013


بـدائل العـقوبات السالبة للحرية


تمضي الحياة في تطور مستمر لا يعرف التوقف، وتتفاوت المجتمعات في استفادة أنساقها من هذا التطور، ففي المجتمع الواحد نجد أن بعض أنساقه تستفيد من التطور وتسايره، بينما تخفق بقية الأنساق وتتخلف.  وقد تقوم بعض الأنساق على تصور للحياة يختلف عن التصور الصحيح لدى الأنساق الأخرى فيحدث الصراع بين أنساق المجتمع، وقد تَغْفل جميع الأنساق عن عوامل مهمة للتطور فتتخلف كلها عن ركب المجتمع الإنساني.  والصورة المثلى أن تستفيد جميع أنساق المجتمع من التطور بصورة متوازية أو على الأقل متقاربة جدا ما يـُحدث بينها حالة من التجانس والتساند فينهض المجتمع، وتنشأ فيه عقول وثابة نحو المستقبل تكتشف ما دق من عوامل التغير وتستشرف عوامل لم تزل في أرحام التطور؛ وهذه واحدة من خصائص المجتمعات في العالم المتقدم.
وفي العصور القديمة والوسطى وفي كل المجتمعات كان نسق العدالة الجنائية من أكثر الأنساق تعثرا وتخلّفا عن مسايرة باقي أنساق المجتمع في الاستفادة من التطور ما أحدث حالة فظيعة من التناشز بين أنساق المجتمع الواحد ذهب ضحيتها علماء ومفكرون وآلاف من الأبرياء والمذنبين. أما في المرحلة المعاصرة فقد تباينت المجتمعات إلى حد كبير حين استطاع البعض منها أن يتغلب على حالة التناشز هذه بجعل نسق العدالة الجنائية يساير جميع أنساق المجتمع في التطور، بينما بقيت العدالة الجنائية في كثير من المجتمعات متعثرة ومتخلفة عن باقي الأنساق بسبب عوائق طبيعية وأخرى مصطنعة.
ومن يمعن النظر في مسيرة العدالة الجنائية عبر العصور يجد ارتباطا وثيقا بين تخلفها وبين بعض مكونات النسق الثقافي؛ ففي العصور القديمة كانوا يفسرون السلوك الإجرامي بأنه ناتج عن دخول أرواح شريرة لجسد الجاني تأمره بالاعتداء على الآخرين، وارتبطت العقوبة في مفهومها ومضمونها وأهدافها بهذا التفسير فجاءت متوحشة، وانحصر هدفها في الانتقام والإيلام، وإخراج الأرواح الشريرة من جسد الجاني بالجلد، والفصد، أو حرق أجزاء منه، وإذ لم تنجح العقوبة في تحقيق هذا الهدف عمدوا إلى استئصال الجاني بوسائل غاية في القسوة  والوحشية.
وفي العصور الوسطى استمر تفسير السلوك الإجرامي على هذا النحو، وزاد عليه في بعض المجتمعات أن السجين مصاب بلعنة الآلهة، لذلك استمرت العقوبات في مضمونها وأهدافها تلك التي كانت معروفة في العصور القديمة، بالإضافة إلى هدف التطهير على أساس أنه كل ما كانت العقوبة قاسية كان التطهير أبلغ. وعلاوة على ما ورثته العصور الوسطى من وسائل عقابية عن العصور القديمة، توفر للإنسان مواد جديدة لجعل العقوبة أكثر إيلاما، كبتر أطراف الجاني، أو خلع مفاصله، أو تحطيم عظامه، أو إحداث جروح عميقة في جسمه وحشوها بالكبريت وغيره من المواد الحارقة، أو إلقائه في سرداب عميق، أو صلبه حتى الموت،  أو حرقه بواسطة اللهب والزيت المغلي، أو شطره إلى نصفين.
أما في المرحلة الحديثة والمعاصرة فقد تطور علم الجريمة والعقوبة على ركائز فلسفية ومنهجية، ما أدى إلى تغير كبير في تفسير السلوك الإجرامي إلى حد بات ينظر فيه للمجتمع المنتج الرئيس لعوامل الجريمة بسبب سوء التنظيم لبعض الجوانب البنائية والوظيفية، وأن الجاني مريض يحتاج إلى العلاج لا العقاب وحده. وتطور كذلك مفهوم العقوبة فبات هدفها الرئيس تحقيق منفعة مستقبلية(*) تبلورت في ما بعد إلى نظرية الدفاع الاجتماعي. ولم يجد نسق العدالة الجنائية بدٌ من مسايرة هذا التطور بادئا بنبذ العقوبات البدنية، وإيجاد الظروف الملائمة لإصلاح الجناة، فظهرت عقوبة السجن بديلا عن العقوبات البدنية(**)، وما لبثت هذه العقوبة البديلة أن أصبحت عقوبة رئيسة في كل المجتمعات التي لم يتعرض فيها نسق العدالة الجنائية لعوائق تشله عن مسايرة أنساق المجتمع في تطورها.
ومع ازدياد التطور كشف العلم والتجارب عن سلبيات لعقوبة السجن لا يمكن التغاضي عنها سوى في مواجهة المجرمين الخطرين، من أهمها كون السجن مدرسة لتعلم لإجرام، والوصم، بالإضافة إلى سلبيات اجتماعية ونفسية وأسرية واقتصادية وصحية جمة، فازدادت المنداة بتطبيق بدائل لعقوبة السجن لتلافي هذه السلبيات في المجتمعات التي خلت من العقوبات البدنية.

المبحث الأول- تعريف البدائل:
أولا- في اللغة: بدل الشيء: غيره، والجمع أبدال (الفيروز آبادي، 1993م:965)، واستبدل الشيء بغيره إذا أخذه مكانه، والأصل في الإبدال جعل الشيء مكان شيء آخر. (ابن منظور، 2004م، ج2 :38).

ثانيا- تعريف البدائل في الاصطلاح:
1-        "مجموعة من التدابير التي تحل محل السجن لإصلاح الجاني وحماية الجماعة أو للتثبت من المتهم والكشف عن حاله"وهي أيضا: عقوبات غير سجنيه ضد المذنبين، أو" عقوبات غير سجنيه بدلاً من العقوبات ألسجنيه" (حويتي، 1416: 124).
2-        "الإجراءات المجتمعية التي يتخذها المجتمع لمعاقبة المخالفين لنواميس المجتمع وقوانينه (اليوسف، 1424 :18).
3-        "نظام يتيح إحلال عقوبة من نوع معين محل عقوبة من نوع آخر قضائيا؛ سواء تم الإحلال ضمن حكم الإدانة أو بعده، ويتم ذلك عند تعذر تنفيذ العقوبة الأصلية، أو قيام احتمال تعذر تنفيذها، أو إذا كانت العقوبة البديلة أكثر ملائمة من حيث التنفيذ بالقياس إلى العقوبة المحكوم بها بداية منظورا في ذلك حالة المتهم (عبد المنعم، 2011: 26).
4-        "إجراءات وعقوبات غير سجنية بدلاً من استعمال السجن سواء كانت تلك الإجراءات قبل المحاكمة أو أثناءها أو بعدها" (الشنقيطي، 2011: 4).
5-        "العقوبات التي تُفرض على المحكوم عليه بدلا من العقوبات السالبة للحرية قصيرة الأمد وبموافقته والابتعاد عن مساوئ العقوبات السالبة للحرية ولا تخرج عن هدف العقوبة وهي الردع العام والخاص وإصلاح وتأهيل المحكوم عليه" ( آدم، 2012: 3).

مناقشة التعريفات/ أزمة الفهم: يعاني مفهوم بدائل العقوبات في أدبياتنا العربية من أزمة  كبيرة في مسماها وترتب على ذلك أزمة في تعريفاتها وتطبيقاتها. وقبلها عانى علم الجريمة والعقوبة في كل المجتمعات من أزمة الاختلاف في تعريف المصطلحات حتى داخل المدرسة الواحدة، وتزداد هذه الاختلافات عددا وشدةً في المجتمعات التي لا يوجد لديها قانون للجرائم وعقوباتها، وهو ما تكْشف عنه التعريفات التي أوردنا وغيرها من التعريفات التي اطلعت عليها؛ فقد تضمنت كلها إطلاق مسميات على البدائل لا تتفق تماما مع مفهومها كما نراه ونتصوره، ومن تلك المسميات: (العقوبات البديلة) (بدائل عقوبة السجن) (بدائل العقوبات السالبة للحرية)، فهذه المسميات تحمل عوامل نقضها في داخلها، للأسباب الآتية:
أولا- أن إطلاق مسمى (العقوبات البديلة) على البدائل لا يستقيم لغة ولا يُقبل عقلا، فمن الناحية اللغوية لا يصح أن يُقال (العقوبات البديلة للعقوبات)، ومن الناحية العقلية نجد أن هذا المسمى قد جعل البدائل عقوبات هي أيضا.
ثانيا- عند الأخذ بمسمى (بدائل عقوبة السجن) فإننا نضيق مجال تطبيق البدائل ونقصره على عقوبة السجن، في حين ما تزال توجد لدى في المجتمعات عقوبات بدنية  (تعزيرية) كثيرة، وباعتقادي أن أيجاد بدائل لهذه للعقوبات البدنية يفوق أهمية إيجاد بدائل لعقوبة السجن في المجتمعات التي لم تخلُ بعد من العقوبات البدنية، وقد تكون عقوبة السجن ذاتها بديلا لإحدى العقوبات البدنية تلك.
ثالثا- يتعارض مسمى (بدائل العقوبات السالبة للحرية) مع الواقع، لأن البديل نفسه قد ينطوي على سلب حرية الجاني ولو بصورة جزئية، كتحديد الإقامة، والسوار الإلكتروني، والمبيت في مركز الشرطة أو السجن.
رابعا- كل المسميات والتعريفات السابقة وغيرها مما اطلعت عليه قد سَجَنَتْ البدائل في زاوية ضيقة جدا عندما قرنتها بالعقوبة وكأن مجال تطبيق البدائل منحصر إزاء عقوبة صدر الحكم بها، في حين أن البدائل قابلة للتطبيق في جميع مراحل الدعوى الجنائية، فيمكن أن يكون لدينا بدائل للقبض والتحقيق، وبدائل للمحاكمة، إلى جانب بدائل العقوبات.
ومما سبق تتضح الحاجة الملحة لفهم العقوبات التي تطبق في مجتمعاتنا أولا، ومن ثم فهم البدائل وتسميتها وتعريفها بما يستقيم لغويا، ويتفق مع العقل، ويعطي صورة واضحة عن مضمونها وأهدافها ومجالات تطبيقها، والمراحل التي تطبق فيها من الدعوى الجنائية. منطلقين إلى كل هذا من فهم صحيح لتفسير الجريمة والعقوبة في الاتجاهات الرئيسة وإعادة ترميم البنى الثقافية والقانونية والذهنية حولها في مجتمعاتنا العربية. وبغير ذلك فإن نتائج مؤتمراتنا العلمية وندواتنا حول بدائل العقوبات ستظل مضطربة وستظهر وكأنها تخص المجتمعات العربية التي خلت من العقوبات البدنية.

المبحث الثاني- مفهوم الجريمة والعقوبة وعلاقته بالبدائل:
يتجاذب مفهوم الجريمة والعقوبة أربعة اتجاهات رئيسة، هي: الاتجاه الإسلامي، والاتجاه الفلسفي، والاتجاه النفسي، والاتجاه والاجتماعي، وسوف نتناول مفهوم الجريمة والعقوبة في هذه الاتجاهات باقتضاب يتحقق به الفهم الذي يخدم موضوع هذه الورقة، وذلك على النحو الآتي:
أولا- مفهوم الجريمة والعقوبة في الاتجاه الإسلامي:
أ- مفهوم الجريمة: اهتم فقهاء الشريعة الإسلامية بتعريف الجريمة وأوردوا لها تعريفات كثيرة، من أهمها تعريف الماوردي لها بقوله: "الجرائم محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها بحد أو تعزير"(*).
وفسرت الشريعة الإسلامية عوامل الجريمة في مواضع كثيرة من القرآن الكريم والسنة النبوية على منحيين هما: إغواء الشيطان للإنسان. وضعف الإيمان. ففي المنحى الأول يقول الله تعالى: "الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"{268}.(1)
وفي المنحى الثاني يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن).(2)
ولم تصم الشريعة الإسلامية إلا عددا قليلا من الأفعال بأنها جرائم حدود وقصاص وديات، وتركت مجالا واسعا للمتغيرات وما يجد من أحداث، فهناك أفعال لم تجرم لا في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة بل جرمتها السلطة وعاقبت عليها، وأجازت الشريعة لولي الأمر إباحة هذه الأفعال إذا اقتضت ذلك مصلحة عامة، (عوده، 1992م، ج1).
ب_ مفهوم العقوبة: جاء تعريف العقوبة في القرآن الكريم بأنها الجزاء والنكال أو التنكيل، قال تعالى: "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"{38}.(3) أو هي العذاب، قال تعالى: "الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ"{2}.(4)
وعلى هذا المنوال جاء تعريف فقهاء الشريعة للعقوبة بأنها "الألم الذي يلحق الإنسان مستحقا على الجناية"(1)، أو هي" الجزاء المقرر لمصلحة الجماعة على عصيان أمر الشارع" (عوده، 1992م، ج1، ص 609). كما عرفوها بأنها"أذىً ينزل بالجاني زجرا له" (أبو زهرة، د.ت، ص6).
ويقسم الاتجاه الإسلامي العقوبة من حيث وجوب الحكم بها إلى قسمين هما:
1-        عقوبات مقدرة عين الله تعالى نوعها، وحدد مقدارها، وأوجب على القاضي أن يوقعها دون زيادة أو نقصان أو استبدال إذا ما ثبتت الجريمة.
2-        عقوبات غير مقدرة وهي عقوبات تُرك للقاضي اختيار نوعها وتحديد مقدارها بحسب ما يراه القاضي من ظروف الجريمة وحال المجرم ومقتضيات الزمان، وهي ما يسمى في الفقه الإسلامي بالعقوبات التعزيرية ومنها التهديد، والتوبيخ، والغرامة، والسجن، والجلد، وقطع الأطراف، وقد تصل إلى القتل.
ويقسمها بحسب الجرائم التي فرضت عليها إلى أربعة أقسام هي:
1-        عقوبات الحدود(*).
2-        عقوبات القصاص والدية.
3-        عقوبات التكفير عن الذنب أو الجرم.
4-        العقوبات التعزيرية، (عوده،1992م).
كما يقسمها بحسب محلها إلى الأقسام الآتية:
1-        عقوبات بدنية: وهي العقوبات التي توقع على بدن الجاني مباشرة، كالجلد، والرجم، وقطع الأطراف، وتشترك في هذا النوع عقوبات الحدود، والقصاص، والتعزير.
2-        عقوبات نفسية: وهي العقوبات الموجهة إلى الجانب النفسي للجاني، كالتهديد والتوبيخ.
3-        عقوبات مالية: وهي العقوبات التي تصيب الجاني في ماله، كالدية والغرامة والمصادرة.
4-        عقوبة السجن كعقوبة تعزيرية مصاحبة (**).
وتأسيسا على هذا المفهوم للجريمة والعقوبة جاء تحديد أهداف العقوبة في الاتجاه الإسلامي  بأنها: تحقيق حياة آمنة وسليمة للفرد والمجتمع، من خلال حمايتها للنفس، والعقل، والدين، والعرض، والمال، وهي إجمالا على النحو الآتي: تحكيم شرع الله تعالى - ردع المذنب وزجر غيره - تحقيق الرحمة بعلاج الجاني وكف الناس عن المنكرات - تكفير الذنوب - حفظ المصالح - دفع المفاسد - إقامة العدل إصلاح الجاني، (الحديثي، 1988م).
وحين نستطلع إمكانية تطبيق بدائل للعقوبات بناء على هذه المعطيات في الاتجاه الإسلامي فسنجد بابا واسعا لتطبيق البدائل، لا بل إن الشريعة الإسلامية سبقت إلى تطبيق البدائل في مرحلة ما قبل الحكم بالعقوبة، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إدرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة)(1)، وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: (أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله، فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه كتاب الله).(2)
وبالإضافة إلى دلالة هذين الحديثين الشريفين على جواز تطبيق بدائل للعقوبات، فإنهما يدلان أيضا على أمرين في غاية الأهمية:
الأمر الأول- وجوب درء الحد بكل شبهة تذهب باليقين في التهمة الموجبة للحد.
الأمر الثاني- أنه يجب عدم هتك الستر حتى يجاهر الفرد بالجريمة.
وفي شأن الأمر الثاني نجد أن التجسس على الناس لهتك سترهم وتحري طرق إثبات التهم عليهم مما ليس فيه مدعيا صاحب منهيٌ عنه بقوله تعالى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ"{12}.(3) ومنهي عنه أيضا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تناجشوا، وكونوا عباد الله إخوانا)(4).

ثانيا- مفهوم الجريمة والعقوبة في الاتجاه الفلسفي:
تأثرَ تفسير الجريمة والعقوبة بالتطورات التي شهدها عصر النهضة، فظهر خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر عدد من الفلاسفة الأوربيين الذين اهتموا بتفسير الجريمة والعقوبة بأسلوب مختلف عما كان عليه الحال في العصور السابقة في المجتمعات الأوربية، وأُطلق على إنتاج أولئك الفلاسفة (الاتجاه الفلسفي)، وقد كان هذا الاتجاه بمثابة القاعدة أو الأساس الذي انطلق منه الاتجاه العلمي (الإحصائي التجريبي) في مجال علم الجريمة والعقوبة، ويشمل الاتجاه الفلسفي هذا ازدهار نظرية العقد الاجتماعي، وولادة المدرستين التقليديتين الأولى والثانية. لكنني سأكتفي من الاتجاه الفلسفي ببعض ما جاء به الفيلسوف الكبير تشيزاري بكاريا(**)، فقد وضع مؤلفا أسماه"محاولة في الجرائم والعقوبات" (An essay on Crimes and Punishments) سنة 1764م، نستخلص منه الآتي [بتصرف]، مما له علاقة بموضوعنا:
1- أصل العقوبة والحق في العقاب: تستطيع السلطة أن تقدم للمجتمع منفعة أكيدة عندما تكون قائمة على المشاعر الدائمة للجنس البشري، وهناك مبادئ تعطي للسلطة كامل الحق في العقاب على الجرائم يأتي في مقدمتها أن الأفراد قد تنازلوا عن أجزاء من حرياتهم وأودعوها لدى السلطة لكي تضمن ممارستهم لما تبقى لديهم من حريات وحقوق طبيعية وتحميهم من الآخرين عند الحاجة، لذلك يتحتم على السلطة أن تدافع عن هذه الأمانة بوصفها حقا للجميع لا يجوز الاعتداء عليه، ولن يتسنى للسلطة الدفاع عن هذه الأمانة بغير العقوبات المقدرة بنصوص قانونية ضد اغتصاب حصص الآخرين من الحريات والحقوق، على أن لا تتجاوز العقوبة ما هو ضروري لحماية الأمن العام والطمأنينة، وإذا ما تجاوزت العقوبة هذا الهدف فهي تعسف وجور وبالتالي غير عادلة.
ومن المؤكد أن الحقوق تصبح في مأمن كلما حافظت السلطة على حرية أفراد المجتمع، وليس هناك ما هو أخطر على هذه الحرية من أن تُنتهك بواسطة العقوبات وباسم الدفاع عن الأمن العام، لذلك لا بد أن تكون الجرائم والعقوبات محددة بدقة، وأن يصبح القاضي حكما بين السلطة التي تتهم وتحدد طبيعة الانتهاك الذي تعرض لـه العقد الاجتماعي، والمتهم الذي يبقى بريئا القاضي. ولا بد للقاضي أن يدرك تمام الإدراك أن أي عقوبة تتجاوز الحد المقدر تصبح عقوبة ثانية مضافة إلى العقوبة الأولى الأصلية، وعليه وهو يبحث عن عقوبة عادلة أن يعي جيدا أن القسوة تتعارض مع العدالة، ومن هنا فإن العقوبة تصبح غير عادلة عندما تتصف بالقسوة غير المبررة.
2- تفسير القوانين: وُجِد القانون أساسا لتنظيم حياة الناس في المجتمع لذلك فإنه ليس وقفا أو وصية يخلفها الأجداد للأبناء لا ينبغي تعديلها أو التصرف فيها بشيء، لأنه في الوقت الذي تبقى فيه هذه الوصية ثابتة فإن المجتمع ينبض بالحياة والتغير الأمر الذي يؤدي إلى ظهور رغبات وحاجات لم تكن موجودة وقت إبرام العقد الاجتماعي وما يتبعه من قانون منظم لشؤون الحياة، فإذا ما أنكرت السلطة هذه الحقيقة وأجبرت الأفراد على عقد أو قانون قديم لا يوافق إرادتهم الجديدة فإنها تنقل الأفراد من الوضع الاجتماعي إلى حالة من البهيمية(*). ولهذا فإن المشرع ملزم بإدخال تعديلات وشروح على عبارات القانون التي تثير الشك والاضطراب في فهم الناس وتفسيرهم، حتى يلجم القدرة على التخريج الفاسد والممارسات الاستبدادية تحت ذريعة التحري عن روح القوانين(**)، وبقدر ما يُقفل هذا الباب يصبح معيار العدل هو القاعدة في مسلك القاضي تجاه المتهم دون تمييز على أساس الوضع الاجتماعي أو الاقتصادي أو التعليمي مثلا، وهنا يتخلص المواطنون من إرهاب الطغاة والجهلة الذين يفسرون أي التباس في القانون وفق مصالحهم وأهوائهم.
إن التفسير التحكمي للقانون شر لا يعادله سوى الغموض في صياغة القانون لأن هذا الغموض هو الذي يجلب التفسير التحكمي، وهذان الشران يزدادان باطراد كلما كان القانون مدونا بلغة غريبة على فهم الناس، ويفاقم هذه الحالة الشاذة أن الأفراد يصبحون غير قادرين على فهم وتحديد ما لهم من حريات وممتلكات فيندفعون إلى محاباة الطغاة الذين توجه تفسيرات النصوص الغامضة لخدمتهم. وشيئا فشيئا حتى تصبح الأحكام التشريعية من أملاك هؤلاء الطغاة، ومن هنا فإن الأفراد يصبحون أسرى الجريمة والخوف منها أو أسرى الطغاة المتحكمين في حقوقهم ومصائرهم. ويأتي عكس هذا أن الأفراد كلما فهموا مضمون التشريعات على وجهها الصحيح، فإن مؤشر الجرائم سيتجه نحو الانخفاض؛ ذلك لأن العلم والتثبت من وجود العقوبات واليقين بها يكبح جماح العواطف لدى من ينوي اقتراف الجرائم. هذا فضلا عن أن القانون المكتوب والواضح يوجد سلطة ثابتة وقوية تمثل الكل وليس البعض، وهذا الثبات والقوة والتمثيل أمور تجعل السلطة غير قابلة للتغيير إلا من قبل الإرادة العامة للأمة، وبهذا تكون السلطة بمنأى عن أي محاولة يبذلها قلة من الجشعين لزعزعتها، ويجعلها كذلك بمنأى عن الوقوع في يد مرضى الأنانية.
3- العقوبة البدنية والتعذيب: من أكثر الممارسات تعارضا مع العدالة أن يُستخدم الألم البدني لعقاب المتهم أو إجباره على الاعتراف بالجرم المنسوب إليه. وإذا كان في استطاعة السلطة الطاغية أن تسوق مبررات لقسوة عقوباتها، وهي في الأصل مبررات واهية، فليس بإمكانها تقديم أي مبرر لممارسة التعذيب، فكل المبررات تتجه لرفض التعذيب وإثبات فشله في كشف الحقيقة، فقد يعذب متهم ثم تثبت براءته بمجرد الصدفة وليس بمقاومته للألم، وقد يعترف متهم تحت وطأة التعذيب ثم تتبين براءته أيضا. ولما كانت غالبية الأفراد لا ينتهكون القانون فإن احتمال تعذيب شخص بريء يكون كبيرا.
وليس هناك ما هو أكثر وحشية وتناقضا مع العقل والمنطق والصفات الإنسانية الحميدة من التعذيب، إذ كيف تصبح قوة التحمل هي العامل الحاسم في الاعتراف من عدمه وقد صح في الأذهان أن الشخص الأقل تحملا سيعترف على نفسه ليضع حدا لعذابه، وفي هذه الحالة يصبح حكم القاضي مسبباً كالآتي:
أنت أيها المتهم القوي: لقد كنت قادرا على مقاومة ألم التعذيب فإنني أبرئك من التهمة المنسوبة إليك. أما أنت أيها المتهم ضعيف التحمل فإنني أدينك وسوف أحكم عليك بالعقوبة إضافة إلى ما تعرضت له من تعذيب.
وتقترب حالة أخرى من نتيجة التعذيب هذه، وهي إدانة المتهم لمجرد التناقض في أقواله، فخوف المتهم البريء من العقاب وخوفه من خطأ المحققين والقضاة في تقدير أقواله وتفسيرها، ورهبة مواقف التحقيق والمحاكمة وهيبتها، كل ذلك جدير بإلقاء الشخص البريء في التناقض بنفس الدرجة التي يقع فيها المجرم في التناقض وهو يحاول إنكار جرمه.
4- العقوبة المعتدلة: ليس الغرض من العقوبة تعذيب الجاني وإيلامه، ولا عرقلة فعل سبق حدوثه، وإنما الغرض هو منع المجرم من إحداث أضرار جديدة بحق المجتمع وثني الآخرين من اقتراف أفعال مماثلة، ولهذا ينبغي انتقاء العقوبات التي تعطي أطول اثر في أذهان الأفراد، وأقل قدر ممكن من الألم على جسد الجاني. ولكي تكون العقوبة على هذا النحو فإنه ينبغي تحقيق قدر من التناسب بين الجرائم وعقوباتها(*)، بحيث يتجاوز الضرر الناجم عن العقوبة ما حققته الجريمة للجاني من منفعة. ولا يعني هذا أن تكون العقوبات قاسية فهناك حقيقة لا مفر من التسليم بها، وهي أن الأفراد يخافون من أقسى عقوبة مطبقة في مجتمعهم خوفا شديدا، حتى وإن كانت هذه العقوبة تعد أهون عقوبة في مجتمع آخر. وهناك حقيقة أخرى لا سبيل إلى إنكارها، بل يجب أن تكون معروفة تماما لدى السلطة التي توقع العقاب، ألا وهي وجود تناسب بين قسوة العقوبات، وقسوة نفوس أفراد المجتمع، فكلما كانت العقوبات قاسية وغير إنسانية أصبحت نفوس الأفراد قاسية وعديمة الرحمة وأكثر تملقا ونفاقا، وبالتالي فإن المجرمين يقترفون جرائم أكثر قسوة وترويعا ووحشية، وهنا تصبح البلاد والعهود التي تشتهر بالعقوبات القاسية وغير الإنسانية من أكثر البلاد والعهود اقترافا لأبشع الأفعال الدموية على يد المشرعين والقضاة والجناة على حد سواء.
5- بدائل العقوبات البدنية: أظهرت التجربة في كل العصور أن العقوبات القاسية لم تمنع الأشخاص من اقتراف الجرائم، وهذا يعزز الاعتقاد بأن قسوة العقوبة في حد ذاتها لا تحدث أثرا في النفس البشرية بقدر ما تحدثه مدة العقوبة؛ لأن النفس البشرية تتأثر بشكل عميق ودائم بالانطباع الخفيف إذا كان متكررا ومستمرا أكثر من تأثرها بالفعل الفظيع لكنه مؤقت وسريع.
ولما كانت الأخلاق تنطبع في الذهن عن طريق الأفعال ذات الزمن الطويل والمتكرر فإن مشهد العقوبة البدنية لا يحدث لدى الأفراد هذا الانطباع بقدر ما يحدثه المثال المؤلم للشخص المحروم من الحرية وكذلك الشخص المحكوم عليه بتأدية أعمال يخدم من خلالها المجتمع تعويضا للمجتمع عما لحق به من أضرار جراء الفعل الإجرامي، ففي كلتا الحالتين يتحول الجاني إلى شخص شبه مملوك للمجتمع، وهذا هو أقوى كابح ضد الجريمة؛ لأن الفرد يكرر على نفسه القول: إنني سوف أخضع إلى هذا الوضع البائس الطويل لو أنني عدت إلى اقتراف الجريمة. وهذه الفكرة  رادعة لأفراد المجتمع أكثر من العقوبة البدنية حتى لو كانت القتل، فالعقوبة البدنية تشاهد للحظة  ولا يتذكرها الأفراد بعد انتهائها إلا في حالات نادرة وغامضة مما يضعف أثرها في النفس. وفوق هذا فإن الوقت والعواطف والانفعالات تعمل على محو معظم الأشياء من ذاكرة الأفراد, ومثلما يفاجئهم الفعل العقابي الشنيع، فإن تأثيره يزول من ذاكرتهم بالطريقة نفسها. هذا فضلا عن كون تكرار العقوبة البدنية يحولها مع الوقت إلى مجرد مشهد للتفرج، وتحدث لدى الأفراد تعاطفا مع المحكوم عليه وازدراء للسلطة، وقد لا تكون هذه المشاعر واضحة حتى لصاحبها لكنها تترسب في النفس، وتؤهل الأفراد لاندلاع موجات من الغضب والعنف ضد السلطة. في حين أن العقوبات المعتدلة والطويلة لا تؤكد ولا تثبِّت في مشاعر الأفراد سوى الخوف الذي يمنعهم من اقتراف الجرائم، وهذا ما يجعل السلطة العادلة تنجح في ترويض نفوس الأفراد على الأخلاق الحميدة والمشاعر الطيبة والنوايا المسالمة، ومن ثم تحقيق أكبر قدر ممكن من الأمن والاستقرار للمجتمع وبخاصة أن الفرد في الوقت الحاضر لا يمكنه أن يختار لنفسه سلب الحرية(*).
ويمدنا الواقع بخبرات في هذا الشأن مؤداها أن كثيرا من الأفراد لديهم القدرة على النظر بهدوء وثبات إلى العقوبة البدنية تعصبا وزهوا وخيلاء، أو يأسا وهروبا من الحياة والشقاء المحيط بهم، غير أن كل هذه المشاعر لا يمكنها أن تصمد أمام سلب الحرية، لأن الجاني لا يضع بالجريمة حدا لآلامه في الحالة الأخيرة وإنما يبدأ في مرحلة طويلة من الألم. ومن التجارب المستفادة أيضا أن النفس تقاوم العنف إلى حد يجعل الآلام الجسدية الوقتية أخف وطأة مما يفعله الزمن والسأم، فمثل هذه النفس العنيدة والقوية في مواجهة العنف لا تقوى على مقاومة الفعل الطويل من سلب الحرية الأمر الذي يجعل أثر هذا الفعل يرسخ في الذهن لدى الجاني فيتحقق الزجر، ويرسخ لدى أفراد المجتمع فيتحقق الردع. وعلى هذا يمكن القول وبثقة أن العقوبة البدنية لا تحقق منفعة مستقبلية كتلك التي تحققها عقوبة سلب الحرية، فلو تجمعت كل لحظات التعاسة الناجمة عن عقوبة سلب الحرية لكانت على الجاني أشد قسوة من العقوبة البدنية، أما أفراد المجتمع فإن عقوبة سلب حرية الجاني تستحضر الخوف لديهم مدة أطول تستمر بقدر استمرار فترة سلب الحرية هذه، ويصبح الأفراد في هذه الحالة مأخوذين بالتفكير في عقوبة سلب الحرية التي ستوقع عليهم إن هم اقترفوا الجرائم، وهم حين يفكرون هذا التفكير، فإن حال الجاني الذي سلبت حريته والماثلة أمامهم تعزز تفكيرهم هذا فيرتدعون بها أكثر من ارتداعهم بالعقوبة البدنية التي لا تشاهد سوى لحظة واحدة ثم تنتهي ويلفها النسيان لأن التأثر مرتبط بالفعل نفسه يدوم بدوامه وينتهي بانتهائه.   
وتوجد مفارقتان خطيرتان جدا يحدثها اللجوء المستمر للعقوبة البدنية، أولاهما أن العقل يجد صعوبة في التفريق بين اللجوء المستمر لهذه العقوبة وبين حالة الحرب التي تريق دماء البشرية، فالقانون بوصفه وسيطا لتهذيب نفوس الأفراد ينبغي أن لا يصبح مثالا أو أنموذجا ولو مصغرا للحرب. وثانيتهما أن العقل السليم يجد صعوبة في التوفيق بين حقيقة أن القانون يبغض القتل ويحذر الأفراد ويردعهم عنه ثم يأمر بارتكابه على هذا النحو.
6- التجريم والوصم(*): يفقد القانون الاحترام العام له إذا جرم فعلا من الأفعال في الوقت الذي لا يكون فيه هذا الفعل جريمة لدى غالبية أفراد المجتمع، وبالإضافة إلى ذلك فإن هذا الإجراء يقلل من تجريم الأفعال التي هي في حقيقة الأمر جرائم وتستحق أن تحظر. وفي مجال الوصم يكون من المفيد لأمن المجتمع واستقراره أن لا تكون العقوبات التي تؤدي إلى الوصم بالانحراف شائعة، لأن تكرار الفعل الخاص بالرأي من شأنه أن يضعف الرأي نفسه، وأن لا توقع على عدد كبير من الأفراد؛ لأن الوصمة التي تلحق عددا كبيرا من الأفراد ستتحول إلى شيء معتاد لا يصم أحدا.
7- فورية العقوبة: تحقق العقوبة قدرا أكبر من العدل والمنفعة المستقبلية كلما كانت الفترة الزمنية التي تفصل بينها وبين الفعل الإجرامي قصيرة، وذلك من عدة وجوه:
أولا- تحمي العقوبة الفورية الجاني من عذاب القلق الشديد بسبب عدم وضوح مصيره.
ثانيا- يشكل سلب الحرية أو الحد منها عقوبة في حد ذاته ينبغي أن لا توقع قبل الإدانة(**).
ثالثا- يمثل تساهل القاضي وتأخيره للحكم بالعقوبة على شخص مسلوب الحرية مثلباً في العدالة وثغرة للتشكيك في نزاهة القاضي.
وإذا ما أخذت هذه النقاط الثلاث بعين الاعتبار، فإنه يجب عدم سلب حرية المتهم إلا بالقدر الذي يمنعه من الفرار ويمنعه من إخفاء أدلة الجريمة، ولأقصر مدة ممكنة قبل الحكم بالعقوبة. والعقوبة الفورية لا تحقق العدل فقط، بل إنها تحقق أكبر قدر من المنفعة المستقبلية المرجوة من ورائها وذلك من الوجوه الآتية:
أولا- كلما كان الوقت بين الفعل الإجرامي والعقوبة قصيرا اجتمعت في الذهن فكرتا الجريمة والعقوبة واقترنتا بشكل أوضح، مما يؤدي إلى تكريس أثر العقوبة واستمراره في الذهن.
ثانيا- مع فورية العقوبة تصبح الجريمة والعقوبة مفهومين متلازمين كسبب ونتيجة يستحضر التفكير في أحدهما صورة الآخر.
ثالثا- تولد العقوبة الفورية انطباعا لدى الأفراد بأنها نتيجة غير قابلة للدفع أو الرد.
رابعا- تولِّد العقوبة الفورية رابطة شعورية بين اللذة والألم تدفع الأفراد إلى التفكير في الأمور البعيدة(*)، ذلك أن ضوء التركيز ينير شيئا واحدا في اللحظة نفسها ويترك الأشياء الأخرى في ظلام دامس، وتأخير العقوبة يتطلب من الشخص أن يربط ويوفق بين عدة أمور وفي مرة واحدة الأمر الذي يبقي بعض هذه الأمور في الظلام، في حين نجد أن هذا الربط والتوفيق أسرع وأدق في حالة العقوبة الفورية لكون الفواصل الزمنية بين الأحداث محل التفكير قصيرة، ومن هنا يستطيع تحديد النتيجة الأقل خطرا وألما، ومن ثم يرسم سلوكه على هذا الأساس.
8- التناسب بين الجرائم والعقوبات: يفرز التوزيع غير العادل للعقوبات تناقضا خطيرا في الرسالة التي يريد المشرع أن يكرسها في الأذهان، ففي الوقت الذي يحارب القانون الجريمة نجده يدعو الأفراد إلى ارتكاب جرائم أكبر عندما يتم إيقاع العقوبة نفسها على جريمتين إحداهما بسيطة والأخرى خطيرة، ذلك أن الجناة لن يتورعوا في هذه الحالة عن ارتكاب الجرائم الخطيرة طالما استوت في العقوبة مع الجرائم البسيطة. ولتفادي هذا التناقض لا بد أن يقوم تناسب دقيق بين الجرائم والعقوبات، فلا توقع عقوبة مخصصة للجرائم الخطيرة إزاء جريمة من الفئة البسيطة.

إن من شبه المؤكد أن الجرائم تزداد كلما ازداد عدد المصالح المحبطة(*)، ولهذا يمكن القول إن كل شخص تقريبا يسهم في إحداث الخلل(**)، وهذا ما يجعل ضبط الجريمة وتوجيهها بحساب دقيق أمرا مستحيلا، ولهذا لا بد من التحسب لكل الاحتمالات وتوفير العقوبة الأشد(***).
9- كيفية منع الجرائم: لا خلاف على أن منع الجرائم قبل وقوعها خير من العقاب عليها، وهذه غاية أي تشريع جيد ومنطلقه، كما أن هذين الأمرين لا يتساويان في العقل إلا عندما يستولي على مقاليد الأمور من ليس بأهل لهذه الولاية، فمن الحقائق الدامغة أنه مهما بلغ القانون من دقة وإحكام فإنه لن يستطيع منع الاضطرابات والفوضى من خلال العقوبة بالقدر الذي يستطيعه قبل وقوعها.
إنه إذا كان يوجد دافع واحد يدفع الناس على اقتراف الجرائم الحقيقية(****)، فإن هناك الآلاف من مثل ذلك الدافع تدفع الناس إلى أفعال تسمى جرائم في نظر القوانين الفاسدة التي ليست أكثر من مجموعة امتيازات لفئة قليلة من البشر، وسيستمر نطاق التجريم في الاتساع على هذا الأساس لكي يتناسب مع عدد الدوافع التي تريد السلطة كبتها، وهذا الاتساع يزيد مع الزمن إلى أن يصبح كل شيء يحض الأفراد على الجريمة، وعندها لن يكون هناك وسيلة لمنع الجريمة سوى أن يُحْرَمَ الإنسان من أن يستخدم حواسه لو كان ذلك في مقدور السلطة التشريعية الفاسدة(*****).
إن منع الجريمة يتحقق كأفضل ما يمكن عندما تكون القوانين واضحة وبسيطة، ولا تميز بين الناس على أساس الطبقة أو المكانة، ويتحقق كذلك عندما تسير الحرية والانفتاح العقلي بالتوازي إلى الأمام ومن ثم تنتشر المعرفة بين أفراد المجتمع دون قيود على اكتسابها، ويتحقق المنع أيضا عندما تكون خشية الناس من القانون وليس من الأشخاص المنفذين؛ إن هذه الأمور الإيجابية كلها تجعل السلطة تقوم على أسس منطقية تحميها من الاهتزاز المؤدي بدوره إلى فقد الأمن، وتجعل الأمة تتوحد من أجل الدفاع عن هذه السلطة التي جعلت الحرية المتبقية لدى الأفراد أكثر من تلك التي في يدها.
إن تجريم الانفتاح العقلي على العلوم يستند إلى اعتقاد واهم بأن العلوم تؤدي إلى الضرر دائما، وفي الحقيقة أن ازدياد أعداد البشر هو الذي يحدث الاضطرابات؛ لأن هذا الازدياد أدى إلى كثرة الحاجات مع غياب القانون الذي كان بإمكانه لو وُجد أن ينظم حياة الناس بشكل أفضل، الأمر الذي استلزم إجراءات قاسية في محاولة لتنظيم البشر، وترافق ذلك مع حدوث أخطاء فظيعة جاءت بها التعاليم الدينية الزائفة التي أوجدت عالم من الأرواح الخرافية تولت الحكم على الأرض(*).
لقد نتج عن تجريم العلوم والانفتاح العقلي عليها أن طغت أفكار خرافية لا فائدة منها، دفعت بالأفراد إلى العصبية العمياء، وإغلاق الفكر وكره الآخرين والرغبة في الإيذاء  (Offending Motivation) وأصبح العلم والمعرفة مصدرا للإيذاء، وهذا كله قد جعل بعض الفلاسفة يتحسرون على العصور البدائية(**)، التي تمثل الحقبة الأولى للإنسان، أما الحقبة الثانية فهي مرحلة انتقال البشرية من الوهم إلى الحقيقة، ومن الغموض إلى الوضوح، ومن الظلام والكبت إلى النور والحرية. ولا شك أنه في مثل هذه التغيرات لا بد أن يكون هناك من يضحي حتى بحياته من أجل سعادة آخرين سيأتون بعده، ولا بد لهذه التغيرات أن تفرز عقولا متفتحة. وخير هبة يقدمها الحاكم إلى شعبه أن يجعل من أصحاب هذه العقول أمناء على التشريعات(***)، فهم الأقدر على البحث عن الحقيقة دون أن يخشوا منها، والنظر إلى أبناء الأمة نظرة إنسانية بوصفهم إخوة متساوين أمام التشريعات.
إن مما يحد من الجريمة أيضا أن تعمل السلطة على توجيه جهود القضاء وأهدافه برمته لمراقبة القوانين وليس الاحتيال عليها، وتشجيع الأعمال الفاضلة ونشرها وليس تجاهلها، وأن يقام التعليم على المبادئ التي تعود بالمنفعة الحقيقية على البشر، ومن تلك المبادئ أن تحل الموضوعات الأصلية محل الموضوعات الثانوية، وان يوجه الشباب إلى الفضيلة بأيسر الطرق وليس بالأوامر التي لا تؤدي إلا إلى طاعة صورية مؤقتة.

هذه أهم النقاط التي في فلسفة بكاريا التي تخدم موضوع بدائل العقوبات، وعلى أساسها يمكن القول أنه برهن على أهمية البدائل في تحقيق العدالة، وبالقدر نفسه أكد على أن العقوبة العادلة هي التي  تحقق أكبر قدر من الأهداف الواقعية المتوخاة من ورائها، وأن من العدل استخدام أي بديل مشروع يحقق هذه الأهداف. وحُقَّ لمن يتساءل عن سبب الإصرار على العقوبة البدنية وقد بات من المسلم به في السياسات الجنائية الحكيمة أن أهداف للعقوبة لن تتحقق بقسوة العقوبات، ولا بالاعتماد على هدف الانتقام من الجناة؛ وإنما تتحقق من خلال إتاحة الفرص للجناة كي يستفيدوا من البرامج الإصلاحية والعلاج والتأهيل، والإجراءات الهادفة إلى حل المشكلات التي تعترض تعديل سلوكهم، ووقايتهم من الوصم بالانحراف، ووقايتهم أبدانهم من ألم العقوبة، وإكسابهم المهارات النفسية، والاجتماعية، والمهنية التي تمكنهم من التكيف الإيجابي مع أنفسهم ومع مجتمعهم، ومساعدتهم على كسب رزقهم بطرق مشروعة، وبالتالي الحد من عودتهم إلى الجريمة بصورة عامة، وإذا ما استخدمت البدائل المناسبة فسيتحقق أكبر عدد من هذه الأهداف.

ثالثا- مفهوم الجريمة والعقوبة في الاتجاه النفسي:
أ- مفهوم الجريمة: على الرغم من كثرة النظريات النفسية وتشعبها في مجال تفسير السلوك بصورة عامة والسلوك الإجرامي بصورة خاصة فإنه يمكن الخروج بمفهوم توفيقي للجريمة بين مدارس علم النفس، ومن هذا المنطلق فإن السلوك الإجرامي سلوك متعلم ويمكن تعديله وفقا لقوانين التعلم، فالسلوك الإجرامي يعد خبرة اكتسبها الشخص بفعل المثيرات وتم تدعيم الاستجابة العدوانية بما يعزز لدى الشخص تكرار هذه الاستجابة كلما تعرض لموقف محبط يثيره، ويمكن التحكم في السلوك الإجرامي من خلال هدم نموذج السلوك المنحرف الذي تم تعلمه الجاني وحضي بالتعزيز سابقا، وإعادة بناء نموذج سلوكي مقبول اجتماعيا ومن ثم تعزيزه (العقاد، 2001م).
كما يوجد قدر كبير من الاتفاق بين مدارس علم النفس على أن هناك عوامل وأسبابا عقلية ونفسية مرضية تقف وراء جميع الأفعال الشاذة، فهم على سبيل المثال ينظرون إلى عدد من الأفعال الإجرامية على أنها تندرج ضمن العصاب القهري (compulsive Neurosis) (أميل بيدس، 1987م).
ب- مفهوم العقوبة: مثلما أن علماء النفس يؤكدون على أن الوقاية (Prevention) خير من العلاج (Treatment) في مجال الأمراض النفسية فإنهم يؤكدون ذلك في مجال الجريمة والعقوبة أيضا، إذ بقدر ما نحتاج إلى العلاج في مجال الأمراض النفسية وما ينتج عنها من اضطراب سلوكي نحتاج إلى الوقاية، على أنه من المسلم به أن الجهود الوقائية تقلل من كلفة الجريمة سواء من حيث الخسائر التي تسببها أو المصروفات التي تحتاجها برامج الإصلاح الموجهة للجناة داخل السجون (Rehabilitation) فضلا عن كونها تحول دون الآلام النفسية والبدنية التي تصيب الضحايا.
لقد صاغ الاتجاه النفسي السلوك الإجرامي في إطار مرضي (Pathological) وهذا ما فرض – في إطار هذا  الاتجاه – أن تقوم السياسات الخاصة بالتعامل مع الجناة على أساس علاجي، وفي هذا تأكيد واضح على دور العوامل الفردية في حدوث الجريمة، مع أن علماء النفس لم يغفلوا دور العوامل الاجتماعية أيضا، فعلى سبيل المثال نجدهم عندما يعدون السلوك الإجرامي ناتجا عن جناح مراهقة كامن، فإنهم يعيدون ذلك إلى فشل اعترى عملية التنشئة الاجتماعية (Socialization) وبالتالي لا بد أن ينطوي رد الفعل إزاء جريمة تعود إلى هذا العامل، بالإضافة إلى العوامل النفسية والعقلية الأخرى، على تدخلات تشتمل على ثلاث عمليات رئيسة هي: (الوقاية، والعلاج، وإعادة التأهيل)، توجه الأولى من هذه العمليات إلى كافة أفراد المجتمع، وتوجه العمليتان الثانية والثالثة إلى الكبار والصغار من الجانحين والجناة في مختلف المؤسسات التي يوجدون بها، وهذه العمليات الثلاث متآزرة تماما فعملية إعادة التأهيل تدعم نتائج عملية العلاج، كما أن عملية الوقاية هي (الفلتر) أو (المرشح) الذي يحجز وراءه الكثير من الحالات السلوكية التي كان يمكن أن تصبح حالات مرضية وإجرامية تتطلب برامج علاجية وتأهيلية مكلفة(*). وإذا ما ربطنا بين البدائل ومعطيات الاتجاه النفسي في هذا المجال فإن البديل قد يتيح فرصة للعلاج كما أنه يدرأ تدهور نفسية المذنب نتيجة لمعاناته من عقوبة السجن أو العقوبة البدنية، وبالتالي فالبديل يقدم العلاج والوقاية مما هو أسوء.

رابعا- مفهوم الجريمة والعقوبة في الاتجاه الاجتماعي:
تحتوي المدرسة الاجتماعية على عدد كبير من النظريات حول تفسير الجريمة والعقوبة لكنني سأقتصر على نظريتين هما نظرية التناشز الاجتماعي، ونظرية الوصم بالانحراف، مسلطا الضوء على الجوانب التي تخدم مفهوم البدائل وفلسفتها، فالنظرية الأولى تفسر السلوك الإجرامي ابتداءً، والثانية تفسر العود للجريمة، وذلك على النحو الآتي:
أ- تفسر الجريمة في نظرية التناشز الاجتماعي (Social disharmony): تعود هذه النظرية للعالم الأمريكي (روبرت ميرتون) ومن الواضح جليا أنه استلهمها من الفرضيات السابقة للفيلسوف الفرنسي (دوركايم) وأعلنها عام 1938م. وهذه النظرية تتخذ من التوافق بين أهداف الفرد والوسائل التي يحددها المجتمع لتحقيقها محورا لفهم السلوك البشري بعامة، وتتخذ من عدم التوافق محورا لفهم السلوك الإجرامي بخاصة، فبقدر ما يتحقق من التوافق بين الأهداف ووسائل تحقيقها يكون السلوك سويا وتنخفض معدلات السلوك الإجرامي، والعكس بالعكس صحيح، ومن هنا فمن المهم أن تكون الوسائل المحددة لتحقيق الأهداف في متناول جميع أفراد المجتمع ومتاحة لهم دون تحيز، ومن المهم كذلك أن تحظى الأهداف والوسائل بالشرعية والقبول لدى أفراد المجتمع.
بدأت نظرية التناشز الاجتماعي بالتأكيد على أن البنيان الاجتماعي يتضمن ضغوطا تدفع الأفراد نحو الانحراف والجريمة، ويمكن تلخيص الأسس التي تقوم عليها هذه النظرية على النحو الآتي:
1-        الأهداف التي يكتسبها الأفراد من ثقافة مجتمعهم.
2-        المعايير التي تحكم سلوك الأفراد أثناء سعيهم لتحقيق هذه الأهداف.
3-        المؤسسية التي يهيئها المجتمع لمساعدة أفراده على تحقيق أهدافهم.
ومن مسلمات هذه النظرية أن المجتمعات تتفاوت في مقدار ثرائها، وفي الفرص التي تتيحها أمام الأفراد لتحقيق هدف الحصول على المال ، مثلا، وتحسين دخولهم الفردية، في حين تُعلي من قيمة النجاح المادي والاستهلاك في الوقت الذي تعجز فيه عن تذليل معظم العقبات التي تعيق الأفراد عن تحقيق أهدافهم بالطرق المشروعة، الأمر الذي يُوجَدُ لديهم حالة من عدم التكيف والتوافق مع مجتمعهم فتهتز لديهم قيم المجتمع وعدالته (اللامعيارية أو الأنومي) وهي حالة تدفع بالبعض منهم إلى إتباع وسائل وطرق غير مشروع لتحقيق أهدافهم المشروعة. وفي هذا حجة ومنهج علمي يؤكدان على أثر النظام الاجتماعي في تشكل الإرادة الإجرامية (الخليفة، 1421هـ).
ب_ تفسير العود للجريمة في نظرية الوصم بالانحراف (labeling Theories): يؤكد (تاننبوم) حين كتب عام 1938م على أن الكيفية التي يتعامل بها الآخرون مع الفرد هي التي تجعل منه مجرما، وبخاصة عندما تعمل هذه الكيفية على تأصيل الشر والإثم في شخص ما وتبالغ في تقدير مدى وجود هذه الصفات في تصرفاته، ومن هنا تنشأ نقمة الجمهور عليه، ونقمته على نفسه وعلى المجتمع (كاره، 1985م).
ومن هذا المنطلق فإن العود للجريمة عملية اجتماعية تحدث بين طرفين أساسيين هما: الفعل المنحرف الأول ورد فعل المجتمع تجاه هذا الفعل وبخاصة إذا اتسم بالقسوة، وما يزيد من نقمة العائدين للجريمة على مجتمعهم أن رد فعل المجتمع لا يكون متساويا في كل الأحوال عندما يصدر الفعل نفسه عن شخصين مختلفين في المكانة والنفوذ، أو انتفاء المعيار (القانون) الذي يتبعه القضاة في اختيار العقوبة المناسبة أو البديل فتأتي قرارات القضاة في إطار من الأحكام التصورية.
وعلى ضوء هذه النظرية يمكن تحديد ثلاث مستويات لظاهرة العود للجريمة، هي:
1-        على مستوى الفرد نتيجة ضغوط نفسية توجه السلوك، في مقدمتها التفاعلات النفسية التي تخلفها العقوبة القاسية إزاء جرمه أو انحرافه أول مرة.
2-        على مستوى البيئة الاجتماعية نتيجة ضغوط تضيق على الفرد مجال الاختيار، وعلى رأسها العقوبة القاسية التي ينتج عنها الوصم بالانحراف، وعدم معالجة المشاكل التي دفعت بالفرد إلى الانحراف ابتداءً.
3-        على مستوى التنظيم الاجتماعي عندما يصبح الانحراف أسلوب حياة لمجموعة كبيرة من الأفراد، وبخاصة المفرج عنهم بسبب تقصير أجهزة الرعاية اللاحقة فلا يجد المفرج عنهم ملاذا سوى العودة للإجرام (العمري، 2002م).
ووفق هذه النظرية فإن المجال الحيوي للعود للجريمة هو التفاعلات الحاصلة بعد أن يقترف الجاني جريمة ما أو سلوكا منحرفا فيرد المجتمع بعقوبة قاسية تصمه بالإنحراف ربما من أول فعل منحرف وأول عقوبة، وبخاصة إذا كانت العقوبة منبثقة عن أحكام تخمينية أوتصورات مغلوطة عن تفسير الجريمة والعقوبة، ويتفاقم الأمر إذا توافر في العقوبة ثلاثة عناصر، هي:
1-        القسوة والرغبة في الإيلام.
2-        أن يكون القاضي قد نظر إلى الماضي (الفعل الذي تم وانتهى) وغفل عن المستقبل ومتطلبات تحقيق المنفعة المستقبلية المتوخاة من وراء العقوبة.
3-        أن يكون القاضي قد قصد التشهير بالجاني (Signification) من خلال عرضه في الأماكن العامة دون ضرورة قصوى.
إن التشهير يجعل الجاني يعتقد أنه أصبح معروفا عند كل فئات المجتمع وهذا بدوره يخلق عنده وعيا سلبيا خاصا بذاته، ويثير لديه الخصائص الإجرامية المرتبطة بما وصم به فيصبح صورة مطابقة لما يصفه به المجتمع، ويصبح الأمر أكثرَ سوءاً عندما يجتهد أشخاص من السلطة التنفيذية في تأكيد خصائص الوصم بإساءة معاملة الجناة فتزداد الهوة الفاصلة بين الجناة والقائمين برامج الإصلاح، وتصبح كل إساءة بمثابة إيحاء للجناة بإبراز خصائص إجرامية فيتصرفون وفق الخصائص التي ألصقت بهم، وهذا ما يجعل جهود الإصلاح تتحول إلى مجرد أعمال روتينية لا تحقق المنفعة المتوخاة من ورائها، بل وربما أتت بنتائج عكسية طالما أن الجناة ينظرون إلى القائمين على هذه البرامج بوصفهم من عملوا على التشهير بهم والقسوة عليهم وإيلامهم.
يضاف إلى هذا، ما أكد عليه (كولي Charles Horton Cooley, 1864-1929) حول الصورة التي يراها الفرد عن نفسه، فالمجتمع مرآة تنعكس ذات الفرد عليها ويتصرف على أساس الصورة التي يراها في هذه المرآة، فالمجتمع الإنساني شبكة من التفاعلات بين عقل الفرد وعقول الآخرين، والنفس البشرية مجموعة أفكار تتعامل مع نفوس الآخرين الذين تشكل نفوسهم مجموعة أفكار أيضا، وهذه النفس تنمو من خلال عملية الاتصالات والتفاعلات التي تنعكس على شعور الفرد، ومن هنا  فإن فعل الآخرين على النفس وفعل النفس على الآخرين ما هو إلا تفاعل الأفكار مع بعضها البعض داخل العقل، ومن ثم يصبح شعور الفرد حول نفسه انعكاسا للأفكار المتأتية من عقول الآخرين، لذلك لا توجد نفس إنسانية معزولة، كما أنه لا أهمية للذات إلا من خلال تفاعلها المستمر مع الآخرين، ولكي يدرك الفرد نفسه بشكل موضوعي فإن عليه أن يستقي هذا الإدراك من خلال رؤى وتقيييم الآخرين ونظرتهم إليه، وهذه العملية تمر بثلاث مراحل:
1-        يتصور الفرد كيف يبدو في نظر الآخرين وما هي معاييرهم في تكوين هذه النظرة.
2-        يتصور الفرد تقييم الآخرين له وحكمهم عليه، وكيف يبدو في نظرهم.
3-        يتصرف الفرد على نحو يعبر عن أنواع الشعور على ضوء المرحلتين السابقتين (الغروي وآخرون، 1992م).
إن العقوبة القاسية في غير محلها لها دور حاسم في حدوث الوصم بالانحراف فهي تجعل الجاني يعتقد أن المحيطين به ذئاب مفترسة يسعون إلى إيذائه وتجريحه، ومن هنا يحتقر المجتمع ويكرهه وينعزل عنه، ولا تلبث هذه المشاعر أن تتحول إلى رغبة جامحة في الانتقام منه بالعود للجريمة. وتتفاقم هذه الحالة بفعل الجمود الاجتماعي الذي يتمسك به بعض أفراد المجتمع تجاه الجناة، وتصرف سلطات المجتمع تجاههم بما يشكل لديهم قناعة بأنها ترغب في إيذائهم والتنكيل والتشهير بهم فتتحول المحاكم في كثير من أحكامها والمؤسسات الإصلاحية في كثير من برامجها إلى مجرد معامل تفرخ كل يوم أفرادا معادين للمجتمع ونظمه، ومن ثم العود للجريمة، وتتزايد أعدادهم يوما بعد يوم حتى يشكلون شريحة اجتماعية كبيرة لها خصائصها الثقافية المتجانسة الأمر الذي يعمل على توحيد مشاعر كرههم وعدائهم للمجتمع ونظمه، وربما تفاقمت الأمور إلى درجة تحدث معها حالة من الهيجان تدفعهم إلى اقتراف أفعال إجرامية بشكل جماعي.
ج- تفسير العقوبة في الاتجاه الاجتماعي: إذا ما اتجه الشأن إلى معرفة السياسة العقابية، انطلاقا من فكر الاتجاه الاجتماعي عن الجريمة الذي اتضحت معالمه في نظرية التناشز الاجتماعي ونظرية الوصم بالانحراف فسنجد أن أهداف العقوبة هنا لا تختلف عن أهداف العقوبة العادلة التي ظهرت في فلسفة بكاريا في منتصف القرن الثامن عشر، مع التركيز على الوقاية الأساسية الموجهة نحو أفراد المجتمع كافة، والوقاية الموقفية الموجهة نحو فئة المنحرفين للحيلولة دون عودتهم للجريمة(*)، ومن أهم أنواع الوقاية الموقفية درء العقوبة البدنية بالبديل كل ما كان ذلك ممكنا لكون هذه العقوبة تجعل الجناة يشعرون بأن كرامتهم قد سلبت، وأن حقهم في سلامة أبدانهم قد انتهك وبالتالي يعتقدون أنه لم يبقى في حياتهم ما يستحق أن يحرصوا عليه، ويمكن لبدائل العقوبات أن تحول دون ظهور كثير من المشكلات المرتبطة بالعقوبة، وبخاصة إذا ما طبقت البدائل تجاه أصحاب الجرائم البسيطة والمبتدئين في الإجرام؛ فهي تتيح استمرار التواص بين الجاني وأسرته ومجتمعه، وتدمجه في  الأنشطة الاجتماعية، وتحقق سلامة بدنه، وتخفض توتراته، ولا تصمه بالانحراف كما تفعل العقوبة.    

المبحث الثالث- دوافع البحث عن بدائل للعقوبات السالبة للحرية:
تبنى السياسة الجنائية على ثلاثة مقومات هي التجريم والعقاب والمنع، وإذا ما أردنا معرفة أين تُفَعَّل البدائل من  هذه المقومات فسنجد أن لها مكانا في المقومات الثلاثة كلها. ففي مجال التجريم تتخذ البدائل مكانا مهما يتمثل في نزع الصفة التجريـمية عن الأفعال التي لا تشكل خطورة كبيرة على المجتمع. وفي مجال العقاب تظهر البدائل في صورة تكاليف بدلا عن العقوبة ومختلفة عنها في مفهومها ومضمونها. وفي مجال المنع تقوم البدائل بالسيطرة على سلوك الجاني وتوجيهه طوال مدة تطبيق البديل، وستظهر نتائج البديل في صورة موجهات لسلوك الجاني في مستقبل حياته.
كما أن للبدائل مكانا مهما في مكافحة الجريمة يظهر في مجال الوقاية من الجريمة بعامة كونها قد تحول دون انحراف أحد من أسرة الجاني المـــُعيل عكس ما يحدث عند غيابه عن أسرته في السجن، ولها مكانها في مجال الوقاية من جرائم العود بخاصة كونها تدرأ الألم البدني والنفسي الذي يورث حقد الجناة ونقمتهم على المجتمع ونظمه، وتيسر لهم التكيف مع أنفسهم ومع مجتمعهم.
لقد باتت القناعة راسخة بأن عقوبة السجن تجاه الأحداث، مثلا، لا تؤدي إلى أي نتائج إيجابية قياسا على السلبيات المترتبة عليها، وإذا ما تم تعميم نتائج الدراسات العلمية حول رأي المجتمعات في هذه العقوبة تجاه الأحداث بخاصة فسنجد أنهم يرفضونها بنسبة قد تزيد على 85% ويطالبون بتطبيق بدائل عنها مناسبة (sport,1998) .
وحتى مع وجود دعوات لتحسين أوضاع السجون فإن هذه الدعوات لا تعني تفضيل عقوبة السجن تجاه كل الجرائم، لأنه حتى لو تم تحسينها فلن يؤدي ذلك إلى القضاء على مشكلات السجون ولا إلى إصلاح السجناء بشكل مثالي فالسجون قديمها وحديثا، تنظر إلى العقوبة أولا بسبب قلة الوعي بطرق التعامل مع السجناء لدى بعض العاملين فيها ومن هنا تفشل السجون في تعديل سلوك السجناء وتفشل كذلك في حل مشكلاتهم مع أنفسهم ومع أسرهم فيعودون للجريمة وربما تحوَّل منحرف مبتدئ إلى مجرم خطير بسبب السجن (Michel,1989) .
وليست مشكلات السجون مستعصية على إداراتها والعاملين بها فقط، بل مستعصية أيضا على لجانب العلمي الأكثر تخصصا في الجريمة والعقوبة، فعلماء الإجرام وعلماء العدالة الجنائية قد عجزوا عن المساعدة الحاسمة لتطوير برامج الإصلاح والتأهيل داخل السجون ولا زالت هذه البرامج عاجزة عن إحداث تغيرات جذرية وإبداعية على الواقع السلوكي والاجتماعي للسجناء،  لذلك تتهم السجون بالفشل الكامل في أداء رسالتها الإصلاحية والتأهيلية (Williams.1989) .
وقد امتد النقد إلى البدائل ذاتها فالبعض يرى أن الجاني يمكنه أن يقترف الجريمة أثناء تطبيق البديل عليه، كالرقابة الإلكترونية أو تحديد الإقامة أو الحبس المنزلي، لذلك فمن المهم تكثيف الدراسات حول البدائل واختيار البديل المناسب لشخصية الجاني ونوع جريمته حتى تتحقق الفائدة من البديل، ولا يصبح البديل فرصة لاقتراف جريمة أخرى (Clark,1988).
وقد أثبتت الدراسات العلمية أن الجناة، وبخاصة صغار السن، الذين يودعون في السجون لديهم نسب عود أعلى من الجناة الذين طبقت بحقهم بدائل لعقوبة السجن، لكون السجن في الغالب لا يوفر التأهيل المهني لكل السجناء كما أنه يعيقهم عن الحصول على وظائف بعد الإفراج عنهم. كما دلت الدراسات على أن خوف الأحداث من رد الفعل الذي سيواجهونه من والديهم والمجتمع يفوق خوفهم من عقوبة السجن، مما يعني أن عقوبة السجن ليست عقوبة رادعة لدى كثير من المنحرفين (Brice,1996) .
لقد أفاض الباحثون في موضوع السلبيات المترتبة على عقوبة السجن، فنجد (طالب، 2003) يتحدث عن عدد من السلبيات، منها:
1-        قد تكون السجون هي الأماكن المفضلة لتعلم الجريمة.
2-        السجون باهظة التكاليف في حين لا يوجد لها مردود مضمون.
3-        عقوبة السجن تحرم أسر السجناء من الدخل المادي إذا كان السجين هو العائل لها مما قد يدفع ببعض أفراد أسرته إلى الانحراف، كما تحرم المجتمع من قوة عمل كبيرة.
4-        يؤدي تكدس السجناء إلى استحالة التفريد العقابي.
ويحصر (اليوسف، 2003) سلبيات السجون في الآتي: (تحل ثقافة السجن محل ثقافة المجتمع- إرهاق ميزانية الدولة- تعطيل الإنتاج- إفساد المسجونين- تكرارا نسب العود- قتل الشعور بالمسؤولية- تردي الأوضاع الصحية والخلقية للسجناء- تأثر برامج الإصلاح والتأهيل سلبا بسوء معاملة بعض العاملين للسجناء- الحرمان الجنسي للسجناء وزوجاتهم- تدهور الصحة النفسية للسجناء- صدمة الإفراج والحرية).
وفي دراسة علمية محكمة لم يفرق (آل مضواح، 2000م) بين السلبيات المترتبة على عقوبة السجن والسلبيات المترتبة على عقوبة الجلد التعزيرية، فقد تبين أن معامل الارتباط بين عقوبة السجن وعقوبة الجلد في مجتمع الدراسة يبلغ (0,98) وبالتالي فمن المستحيل عزل السلبيات المترتبة على عقوبة السجن عن السلبيات المترتبة على عقوبة الجلد، كما تبين أن عقوبة الجلد التعزيرية تحدث أضرارا لا يمكن إصلاحها على بدن الجاني ونفسيته وسلوكه وعلاقته بالمجتمع ونظمه في المستقبل، وأنها من أهم العوامل المؤدية للعود للجريمة، كما تؤدي إلى فشل برامج الإصلاح والتأهيل داخل السجون، وتحول دون تكيف معظم السجناء السجين مع أنفسهم ومع مجتمعهم، وتورث نقدا عالميا لسير العدالة. وقد خلصت هذه الدراسة إلى أن الارتباط القوي بين عقوبة السجن وعقوبة الجلد التعزيرية ينتج عنه أضرار بالغة يظهر البعض منها في النتائج الآتية:
1-        بلغت نسبة العود للجريمة من 3-12 مرة، 59 % من الجناة.
2-        وجود علاقة ارتباط عكسية بين هاتين العقوبتين وبين هدف الزجر بلغ فيها معامل الارتباط -0,86
3-        وجود علاقة ارتباط عكسية بين هاتين العقوبتين وبين مبدأ إعادة التكيف النفسي والاجتماعي للجناة بلغ فيها معامل الارتباط -0,70
4-          وجود علاقة ارتباط عكسية بين هاتين العقوبتين وبين استمرار العلاقات الاجتماعية والأسرية للجناة بلغ فيها معامل الارتباط -0,92
5-         وجود علاقة ارتباط عكسية بين هاتين العقوبتين وبين وجهة النظر الحسنة من الجناة تجاه رجال الأمن بلغ فيها معامل الارتباط  -0,65
6-        وجود علاقة ارتباط موجبة بين هاتين العقوبتين وبين تمجيد الجناة لثقافة الإجرام بلغ فيها معامل الارتباط 0,85
7-        وجود علاقة ارتباط موجبة بين هاتين العقوبتين وبين الوصم بالانحراف بلغ فيها معامل الارتباط 0,84
8-        وجود علاقة ارتباط عكسية بين هاتين العقوبتين وبين وجهة النظر الإيجابية من الجناة تجاه الإجراءات الجنائية بلغ فيها معامل الارتباط -0,76
9-        وجود علاقة ارتباط عكسية بين هاتين العقوبتين وبين مستوى تقدير الذات لدى الجناة بلغ فيها معامل الارتباط -0,96
10-   بلغت نسبة الجناة الذين يرون عدم استخدام القضاة لبدائل صحيحة 97% 

المبحث الرابع- مشـروعية البدائل:
أ‌-                      مشروعية البدائل في التشريعات المعاصرة: أصبحت البدائل في معظم التشريعات المعاصرة من ثوابت السياسة الجنائية، وركن من أركان العدالة الجنائية، إلى حد أن الأمم المتحدة أدرجت البدائل في عدد من مؤتمراتها حول الجريمة والعدالة الجنائية، وأصدرت بشأنها مذكرات توجيهية وتوصيات ومشاريع تنظيمية، وتمت صياغة قواعد الحد الأدنى للبدائل (قواعد طوكيو 1987م) على غرار قواعد الحد الأدنى لمعاملة السجناء. وقبل ذلك بأكثر من قرن كانت بعض الدول قد بدأت في تطبيق بدائل العقوبة؛ فقد بدأ هذا النظام في أسبانيا سنة 1908م، ثم تلتها باقي دول أوربا وأمريكا واليابان. وبالتالي فإن الحديث عن مشروعية البدائل في التشريعات المعاصرة لا يقدم جديداً، لكونها باتت حقيقة معروفة لا تحتاج إلى دليل، ومن أشهر البدائل التي طبقت في دول العالم المتقدم: الاختبار القضائي، والتعهد بالشرف، وخدمة المجتمع، والرقابة الإلكترونية، والحبس المنزلي، والغرامة، وتعليق النطق بالحكم، ونظام شبه الحرية، والحرمان من بعض الحقوق، والعمل للمصلحة العامة.
ب‌-               مشروعية البدائل في الاتجاه الإسلامي: بالنظر إلى تقسيم الاتجاه الإسلامي للعقوبات من حيث وجوب الحكم بها إلى عقوبات مقدرة من الله ورسوله وتسمى عقوبات الحدود والقصاص والديات والتكفير عن الذنب. وعقوبات لم يرد بها نص يقدرها وتسمى العقوبات التعزيرية وهذه تُروك أمرها للقاضي يقدرها كيف ما يشاء – فإن مشروعية بدائل العقوبة لا تزال غير واضحة لدى كثير من فقهاء الإسلام المعاصرين؛ ففي مجال عقوبات الحدود يرون أنه لا يمكن زيادتها ولا تخفيضها ولا إبدالها. وعلى الرغم من رأيهم هذا نجد أن هناك أحاديث ووقائع من السنة المطهرة لا تخلوا من الربط بينها وبين البدائل في مجال عقوبات الحدود؛ فقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إدرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة).(1) وقال عليه الصلاة والسلام: (أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله، فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه كتاب الله).(2)
وثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم تطبيق بديل لحد الحرابة والفساد في الأرض التي حدد الله تعالى عقوبتها بقطع الأيدي والأرجل من خلاف، حيث طلب من الجناة أن يعلموا عددا من أبناء المسلمين القراءة والكتابة مقابل عدم تنفيذ هذه العقوبة عليهم وهذه هي بدائل العقوبة بعينها ومفهومها وفلسفتها (آل مسعد 2011)(*).
أما رأي الفقهاء في العقوبات التعزيرية فلا خلاف بينهم على أنها تعود لاجتهاد القاضي لعدم وجود نص يقدرها، لذلك فإن استخدام بدائل عنها جائز بشرط أن يحقق البديل مصلحة للمجتمع وأن ينطوي على معنى الزجر والردع، وما يزيد في مرونة العقوبات التعزيرة وقابليتها لتطبيق بدائل عنها أنه لا حصر للعقوبات التعزيرية وبالتالي فلا حصر للبدائل التي يمكن تطبيقها إزاءها، مما يأتي تحت مسمى المصلحة العامة التي جاءت الشريعة بدعمها، ولا يوجد شرعا ما يمنع من تطبيقها (آل مسعد، المرجع السابق).
وإذا ما استقر رأي القاضي على تطبيق بديل للعقوبة فمن المهم أن يستوفي البديل عددا من الشروط، أهماه:
1-      أن يكون البديل جائز شرعا.
2-      أن يحقق البديل مقصد العقوبة.
3-      ألا ّيخالف البديل نصا شرعياً ولا حكماً قطعيا.
4-      ألاّ يتعارض البديل مع عقوبة منصوص عليها شرعا أو قانونا.
5-      ألاّ يكون البديل عبادة محضة.
6-       أن يكون البديل عدلا.
7-      أن يوقع البديل على فعل محظور شرعا أو قانونا.
8-      ألاّ يُلحق البديل ضررا بالجاني لا يتفق مع طبيعة العقوبة.
9-      أن يكون المتهم مكلفا وذا أهلية تامة.
10- أن يصدر بالبديل حكم قضائي نهائي.
11- أن يكون البديل واضحا وقابلا للتطبيق.
12- أن ينفذ الحكم البديل تحت إشراف جهة متخصصة (الدبيان، 2011م).
وبصورة عامة فإنه على الرغم من الجهود العربية الكبيرة التي يبذلها الباحثون والمتخصصون في علم الجريمة والعقوبة والقضاة لتأصيل البدائل وتطبيقها فإن الاضطراب يشوب إنتاج الكثير منهم، ويظهر وجهودهم، ويظهر هذا الاضطراب في أوجه عدة منها الإخفاق في وضع ضوابط منبثقة عن المقارنة بين البدائل والعقوبات الأصلية وتطبيق بدائل قد يفوق ضررها الضرر الناجم عن العقوبات الأصلية. ويمكن أن أعزو هذا الاضطراب إلى الصعوبة التي يواجهونها في المواءمة بين معطيات الاتجاه الإسلامي والاتجاهات العلمية المعاصرة في هذا المجال وعدم تأهيل القضاة على العلوم الحديثة ذات العلاقة ومقاومة بعض القضاة لأي تطبيق جديد لا يفهمونه ويتطلب منهم بذل جهود لتعلمه وفهمه.
وتأسيسا على كل هذا فلا بد لأي محاولة علمية جادة تهدف إلى وضع ضوابط وشروط لبدائل العقوبات تكون خالية من الاضطراب وغيره من السلبيات أن تأخذ الآتي بعين الاعتبار:
1-   صياغة قانون للجرائم وعقوباتها يتضمن مواد توجب استخدام البدائل كل ما كان ذلك ممكنا.
2-  صياغة مذكرة تفسيرية لهذا القانون تتضمن إرشادات وموجهات حول البدائل التي يمكن تطبيقها.
3-    ألاّ يُحدث البديل ما تحدثه العقوبة الأصلية من ألم بدني ونفسي للجاني.
4-    ألاّ يكون البديل فاضحا أو هادفا إلى التشهير بالجاني مما يتسبب في وصمه بالانحراف.
5-    ألاّ يكون البديل من جنس العقوبات البدنية التي ورد بها نص في الشريعة الإسلامية أو القانون.
6-   أن يهدف البديل إلى درء العقوبة الأصلية شكلا ومضمونا.
7-   ألاّ يترتب على البديل عقوبة تكميلية ولا تبعية من تلك التي تترتب على العقوبة الأصلية.
8-    ألاّ يترتب على البديل أي خرق لقانون حقوق الإنسان والقواعد الدنيا لمعاملة السجناء وقواعد الحد الأدنى للبدائل.
9-    ألاّ يتضمن البديل أي انتهاك لكرامة الإنسان بوصفه إنسانا.
10-   ألاّ يكون البديل قد بني على أساس عرقي، ولا على أساس الأصل أو للون.
11-   ألاّ تكون مشقة البديل على الجاني تساوي أو تفوق مشقة العقوبة الأصلية.
12-   أن يكون البديل عاملا مساعدا على إحداث التكيف والتوافق النفسي والاجتماعي للجاني، وأن يسهل عليه تطوير مستواه التعليمي والمهني والوظيفي، وأن يساعده على الاستمرار في دوره الاجتماعي والأسري وكسب قوته وقت أسرته بطرق شريفة.

خاتـمة
لا خلاف على أن اكتظاظ السجون مشكلة تعيق عملية الإصلاح والتأهيل، ويزداد هذا الاكتظاظ سوء بزيادة أعداد الموقوفين على ذمة التحقيق وتأخر القضاة في إصدار الأحكام فتضيق بهم السجون ويستهلكون معدات ومرافق السجن ومصروفات مادية كبيرة، لهذا وغيره من سلبيات السجون انطلقت الدعوة إلى أيجاد بدائل لعقوبة السجن، غير أن هذه الدعوة انطلقت من مجتمعات خلت قوانينها من العقوبات البدنية منذ زمن بعيد. ففي تلك المجتمعات بدأت المطالبة ببدائل للعقوبات البدنية كمرحلة أولى لإصلاح الأنظمة العقابية فظهرت عقوبة السجن كبديل إنساني رحيم، ومع تطور البشرية وسوء استخدام هذا البديل ظهرت الدعوات إلى أيجاد بديل لعقوبة السجن.
وقد تبين بجلاء من خلال مناقشة وتحليل مفهوم البدائل وفلسفتها في ثنايا هذه الورقة أنها ليست ترفا تشريعيا أو عقابيا، بل ضرورة تمليها المرحلة المعاصرة وما وصل إليه العلم من حقائق حول الفوائد التي تحققها على صعيد الأمن، واستقرار المجتمع، وتماسك الأسرة، والتنمية، وحقوق الإنسان، وعلى سلوك الجاني وسلامته من التنكيل والإيلام البدني والنفسي. وهذه قاعدة لم يشذ عنها المطالبة باعتماد عقوبة الجلد بديلا عن عقوبة السجن لتوفير المصروفات الحكومية، أو لسهولة تنفيذ الجلد، أو للتخفيف من ازدحام السجون والحد من سلبياتها؛ لأن هذه المطالبة تنتمي إلى الفكر العقابي الذي كان سائدا في العصور الوسطى والأحكام التصورية للقضاة والجلادين في العصور المظلمة. وكم يبعث على الأسى أن أصحاب هذه المطالبات لو تمت الاستجابة لها سترتد بمفهوم العدالة الجنائية إلى أواسط العصور الوسطى. وكم هو محزن أنني لا زلت أطالب في هذا العصر بما كان يطالب به الفيلسوف (تشيزاري بكاريا) سنة 1764م، حين طالب بنبذ العقوبات البدنية وتطبيق عقوبة السجن بدلا عنها.
ومع إدراكي لأهمية بدائل عقوبة السجن إلا أن أيجاد بدائل للعقوبات البدنية التعزيرية له الأهمية القصوى في نظام العدالة الجنائية المعاصر، ويأتي على القدر نفسه من الأهمية تقنين البدائل لأن الاعتماد على التصورات والتخمين حول بدائل العقوبات سيتسبب في الأضرارا نفسها التي نجمت عن العقوبات التصورية وربما بدرجة أكبر إذا ما أخذ بعين الاعتبار مدى التطور الذي وصلت إليه المجتمعات المتقدمة، ما يلزم المجتمعات النامية إصلاحات واسعة في نظانم العدالة الجنائية تعتمد على العدالة واحترام إنسانية الإنسان لتسير بخطا واسعة نحو التطور الحضاري والعلمي في أمن واستقرار وعلاقة حسنة بين الأفراد ونظم مجتمعهم، ويعتمد كذلك على قانون حصيف يضبط العلاقة بين أفراد المجتمع من جهة وبينهم وبين سلطات المجتمع من جهة ثانية، هذا فضلا عن كون تقنين العقوبات والبداءل يحمي القضاة من تدخل أصحاب النفوذ الهادف إلى التأثير في نزاهة القضاء واستقلاله، يضاف إلى ذلك أهمية وجود هذا المعيار لدى السلطة القضائية لأنها لا تخلو – كأي مؤسسة اجتماعية - من الصارع بين القضاة، والصراع بينهم وبين المحامين والعاملين، ولا يمكن التغلب على هذا لاصراع بغير القانون، وبخاصة أن القضاة يختلفون في القدرات العقلية والتحصيل العلمي والمكتسبات الثقافية وسعة الأفق، ويتعرضون لاعتلال الصحة البدنية والنفسية ما يحتم وجود مسطرة تضاها عليها الأحكام الصادرة عنهم حفاظا على العدل وحقوق الإنسان المتهم، وصيانةً للعلاقات السليمة بين الأفراد وسلطات المجتمع.

والله تعالى من وراء القصد...عليه توكلت وإليه أنيب.

المصادر والمراجع
أولا- المصادر:
1-       صحيح مسلم، (1998م).
2-      مسند الإمام أحمد بن حنبل، (2001).
3-      السياسة الشرعية لابن تيمية،(2..4م).
4-     حاشية الدر المختار للطحاوي، (1395هـ).
5-      الأحكام السلطانية والولايات الدينية للماوردي، (2..4م).
6-       القاموس المحيط للفيروز آبادي، (1993م).
7-        لسان العرب لابن منظور، (2004م).
ثانيا- المراجع
1-        أبو زهرة، محمد. (د.ت). الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي، القاهرة: دار
2- أحمد، فؤاد عبدالمنعم. (2011م) مفهوم العقوبة وأنواعها في الأنظمة المقارنة. جدة: ورقة عمل مقدمة في ملتقى الاتجاهات الحديثة في العقوبات البديلة.
3-        بكاريا، تشيزاري. (1985م). الجرائم والعقوبات، ترجمة يعقوب حياتي. الكويت: مؤسسة الكويت للتقدم العلمي.
4-        بيدس، أميل خليل. (1987م). دليل الأمراض النفسية والبدنية. بيروت: دار الآفاق الجديدة.
5-        الحديثي، عبدالله. (1988م). التعزيرات البدنية وموجباتها في الفقه الإسلامي.
6- حويتي، احمد،اسلوب تطوير العمل الإصلاحي والتهذيبي في الدول العربية، مجلة الفكر الشرطي مجلد 4 عدد 2 1416هـ.
7- الدبيان، علي بن راشد. (2011م) شروط العقوبات البديلة. جدة: ورقة عمل مقدمة في ملتقى الاتجاهات الحديثة في العقوبات البديلة.
8- الشنقيطي، محمد عبدالله. (2011م) أنواع العقوبات البديلة التي تطبق على الكبار. جدة: ورقة عمل مقدمة في ملتقى الاتجاهات الحديثة في العقوبات البديلة.
9-        طالب، أحسن. (2000م). العمل الطوعي لنزلاء المؤسسات الإصلاحية. الرياض: جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية.
10-   طالب، أحسن. (2001). الوقاية من الجريمة. بيروت: دار الطليعة.
11-   طالب، أحسن.(2..2م).الجريمة والعقوبة والمؤسسات الإصلاحية.بيروت: دار الطليعة.
12-   العقاد، عصام. (2001م). سيكلوجية العدوان وترويضها. القاهرة: دار غريب.
13-   العمري، صالح. (2..2م). العود إلى الانحراف في ضوء العوامل الاجتماعية. الرياض: جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية.
14-   الغروي،فهمي سليم وآخرون. (1992م). المدخل إلى علم الاجتماع.عمان:دار الشروق.
15-   كاره، مصطفى عبدالمجيد. (1985م). مقدمة في الانحراف الاجتماعي. بيروت: معهد الإنماء العربي.
16-   آل مسعد، عبدالمحسن. (2011م) مشروعية العقوبات البديلة. جدة: ورقة عمل مقدمة في ملتقى الاتجاهات الحديثة في العقوبات البديلة.
17-   آل مضواح، مضواح بن محمد. (2000م). النتائج المترتبة على عقوبة السجن، الرياض: جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية.
18-   آل مضواح، مضواح بن محمد. (2009م) المنفعة المستقبلية للعقوبات الجنائية من منظور إصلاحي. الرياض: جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية.
19-   آل مضواح، مضواح بن محمد. (2007م) المنفعة المستقبلية للعقوبة من وجهة نظر النزلاء. الرياض: جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية.
20-   اليوسف، عبدالله. (2003م). التدابير المجتمعية كبدائل للعقوبات السالبة للحرية. الرياض: جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية.
21-   اليوسف، عبدالله. (2006م) أراء القضاة والعاملين في السجون نحو البدائل الاجتماعية للعقوبات السالبة للحرية. الرياض: مؤسسة الملك خالد الخيرية.
المراجع الأجنبية
1-       Brice, S: Alternative Sanction in Germany. 1996
2-       Clark, A. Schmidt: How the Public Sees Sentencing. 1988.
3-       Michel, Foucault: Alternative to prison,1993.
4-       Sprott, Jane B: Understanding public oppositions to separate  youth justice system, 1998.
5-       Williams, Frank: Running on empty Creativity and the correctional agenda.1989.


(*)  كان الفيلسوف تشيزاري بكاريا أول من استخدم هذه العبارة سنة 1764م .
(**)  واحد من أهم المطالب التي نادى بها بكاريا وكافح من أجله.
(*) أفاض الماوردي في تصنيف الجرائم وعقوباتها، وأحوال المتهمين وما ينبغي على الحاكم فعله تجاه المتهم والمحكوم عليه، ولمزيد من الاطلاع على رؤية الماوردي في هذه الجوانب، أنظر: (الماوردي، علي بن محمد. الأحكام السلطانية والولايات الدينية. بيروت: دار الكتب العلمية، 2004م، ص ص 273-293).
(1)  سورة البقرة الآية رقم (268).
(2) لمزيد من الاطلاع، أنظر: ( صحيح مسلم. بيروت: دار الكتب العلمية، 1992م، ج2، ص38).
(3) سورة المائدة الآية رقم (38).
(4) سورة النور الآية رقم (2).
(3) لمزيد من الاطلاع أنظر: (الطحاوي، أحمد. حاشية الدر المختار، بيروت: دار المعرفة، 1395م.
(*)  يؤكد ابن تيمية على أن إقامة الحدود من العبادات كالجهاد في سبيل الله، وأنها رحمة من الله بعباده، وأنه ينبغي لمن يعاقب أن يقصد رحمة الخلق بكف الناس عن المنكرات، وأن يكون بمنزلة الوالد إذا أدب ولده. ولمزيد من الاطلاع على نظرة ابن تيمية للجريمة والعقوبة، أنظر: (ابن تيمية، تقي الدين. السياسة الشرعية. الرياض: مكتبة الرشد للنشر والتوزيع، 2004م، ص ص 95-169).
(**)  لم تتضح الرؤية لكثير من الباحثين حول ما إذا كانت عقوبة السجن عقوبة بدنية أم لا، وقد رأى بعضهم أنها عقوبة بدنية وهذا ما ذهب إليه (الحديثي، 1988م)  غير أن الباحث يرى  أنها عقوبة بدنية ونفسية ومالية في آن واحد؛ فهي عقوبة بدنية لكونها تطال بدن المحكوم عليه كأن تصيبه بالسمنة والترهل أو النحافة والهزال والأمراض بسبب كونها تفرض قيودا على تحركه وانتقاله. وهي عقوبة نفسية لكونها تصيب المحكوم عليه بالكدر والحصر والهموم والخجل. وهي عقوبة مالية لكونها تحرم المحكوم عليه من متابعة أمواله وتنميتها وإدارتها، الأمر الذي يتسبب له في خسارة مالية كبيرة، على أن عواقبها النفسية والبدنية (Physical-Somatic effects) على المسجون أعمق ألما وأكثر أثرا في سلوكه سلبا أو إيجابا.
(1) أنظر: سنن الترمذي لأبي عيسى محمد بن عيس بن سورة، رضي الله عنه. بيروت:دار إحياء التراث العربي،2000م، ص411.
(2) أنظر: الموطأ للإمام مالك بن أنس رضي الله عنه. بيروت: دار ابن حزم، ط3، 1996م، ص720.
(3) سورة الحجرات، الآية رقم (12).
(4) أنظر: صحيح مسلم للإمام مسلم بن الحجاج رضي الله عنه. بيروت: دار الكتب العلمية، 1992م، ص102.
(**) ولد بكاريا في ميلانو بإطاليا، وأسمه الحقيقي ( بوناسينا دي مارتشيزي   Bonasena de Marchese) وكان مهتما في حياته الأولى بالرياضيات والاقتصاد لأنه من أبناء الطبقة الارستقراطية وكانت عائلته تحضره لدخول عالم المال والأعمال، لكن اتصاله بالأخوين (Ferri) هو الذي غير اتجاهه.  أكمل (بكاريا) تعليمه الجامعي بجامعة بافيا، ولم يكن طالبا متميزا في المراحل المبكرة من دراسته غير أن دراسته في تلك الجامعة مكنته من زيادة الاطلاع على إنتاج عدد كبير من المفكرين والفلاسفة وفي مقدمتهم فلاسفة العقد الاجتماعي. حصل على درجة الدكتوراه وهو في العشرين من عمره ثم انضم إلى جماعة أكاديمية القبضات (Academy of Fists) التي تطالب بإجراء إصلاحات قانونية واسعة، وفي هذه الجماعة تأثر بالأخوين فيري (Ferri): بيترو وأليساندرو، ولما كان الأول يعمل قاضيا والثاني يعمل في أحد السجون بإطاليا فقد استطاع بكاريا أن يعرف بواسطتهما كثيرا من مواطن الفساد في نظام العدالة الجنائية الإيطالي في ذلك الوقت، وتأثر تأثرا شديدا بما كان يقترفه القضاة من أعمال الفساد فاقترح عليه زملاؤه كتابة مقالة حول القانون الجنائي. وهكذا ولدت الفكرة لترى النور عام 1764م من خلال كتاب أسـماه "محاولة في الجرائم والعقوبات"  (An essay on Crimes and Punishments) ونشره تحت اسم مستعار خشية الملاحقة الأمنية والقضائية. وقد كان لهذا الكتاب وقع شديد في أوربا، وحظي بالإعجاب الشديد من قبل الفلاسفة والعلماء والمفكرين حتى اليوم. ولمزيد من الاطلاع حول فكر بكاريا وسيرة حياته، أنظر: (بكاريا. الجرائم والعقوبات. ترجمة يعقوب حياتي، 1985م ص 13)، وانظر كذلك  (كاره، عبد المجيد. مقدمة في الانحراف الاجتماعي، 1985م ص ص 95-96)، وانظ أيضا: (الوريكات، عايد. نظريات علم الجريمة، 2004م ص ص 59-60)
(*)  من الواضح أن بكاريا سبق بزمن طويل أصحاب النظريات التي تجعل من التغير الاجتماعي والحضاري سببا لظهور عدد من عوامل الإجرام. فعلى سبيل المثال نجد العالم اميل دوركايم (E. Durkheim,1858-1917) يربط الإجرام بنوعية التضامن السائد في المجتمع فيرى أن الإجرام يزداد كما ونوعا في المجتمعات الأكثر تغيرا حضاريا بسبب زيادة العقلانية والفردية، واتساع تقسيم العمل وما ينتج عنه من تعدد الحرف واتساع العلاقات والتفاعل الاجتماعي، وتحول العلاقات بين أفراد المجتمع إلى نوع من التضامن العضوي ذي العلاقة الجزئية المعتمدة على المصلحة الذاتية والوظيفة المهنية، بينما يقل الإجرام كما ونوعا في المجتمعات المتأخرة في تغيرها الحضاري والتي لا زالت العلاقة بين أفرادها علاقة تقوم على التضامن الآلي الميكانيكي المعبر عن الشعور الجمعي والتجانس الثقافي، ولا يزال تقسيم العمل فيها يعتمد على العمر والجنس، وتستند العلاقة فيه إلى القرابة والولاء للضمير الجمعي. وبعض العلماء ينظرون |إلى الجريمة الجديدة والمستجدة  والصراع القيمي الثقافي على أنها من الظواهر التي تمثل كلفة التغير الاجتماعي، ويمكن أن تلحظ العلاقة بسهولة بين التغير الاجتماعي والحضاري في مواطن كثيرة. ولمزيد من الاطلاع على العلاقة بين الجريمة والتغير الاجتماعي والحضاري، أنظر:
     - أبو توتة، عبد الرحمن. علم الإجرام. الإسكندرية: المكتب الجامعي الحديث، 1999م.
     - جعفر، علي. علم الإجرام والعقاب. بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع،  1992م.
     - الدوري، عدنان. أساب الجريمة وطبيعة السلوك الإجرامي. الكويت: ذات السلاسل، 1984م.
     - طاب، أحسن. الجريمة والعقوبة والمؤسسات الإصلاحية. بيروت: دار الطليعة، 2002م.
     - عمر، معن. علم المشكلات الاجتماعية. عمان: دار الشروق، 1998م.
     - عمر، معن. التغير الاجتماعي. عمان: دار الشروق، 2004م.
           - Sutherland, Edwin & D. Cressey: Criminology, Philadelphia, J.B. Lippincott. 1978
 (**) يتخوف بكاريا من التفسيرات المبررة للأحكام الجائرة بدعوى الفهم الصحيح لما يقصده المشرع من وراء فقرة غير واضحة في النظام    (القانون) لذلك فلا بد أن يكون النظام واضحا لا لبس فيه.
(*) تعد هذه العبارة من أكثر العبارات التي فهمت وفسرت بشكل خاطئ على غير ما قصده (بكاريا)، فقد عدها الباحثون والعلماء دعوة لأن تكون العقوبات قاسية، على الرغم من أن (بكاريا) قد شرح ما يقصده حين أكد في أكثر من موضع في كتابه "الجرائم والعقوبات" أنه لا يدعو لأن تكون العقوبات قاسية في مواجهة كل الأفعال، بل إن غاية قصده هو أن لا تطبق عقوبة قاسية في مواجهة كل الأفعال وإنما تتدرج العقوبات بحسب شناعة  الفعل الإجرامي، بل إنه يمكن أن نعد كتاب (بكاريا) برمته صرخة في وجه العقوبات القاسية.
(*)   من الواضح أن بكاريا يقصد بعدم الاختيار هنا أن الحياة أصبحت أفضل من ذي قبل إلى حد يجعل الفرد السليم يفكر كثيرا قبل أن يقدم على فعل إجرامي يحوله إلى سجين محروم من متعة الحياة الحرة.
(*)   استخدم (بكاريا) مسمى الوصم في الوقت الذي يدل مضمون ما كتبه تحت هذا العنوان على أنه يقصد وصف الفعل بأنه جرمي ووصم مقترفه بأنه مجرم (Labeling)، لهذا فقد استخدمنا مسمى (التجريم والوصم). وعلى كل حال فإن (بكاريا) سبق إلى هذا المصطلح كل العلماء في مجال علم النفس الاجتماعي وعلماء نظرية التفاعل الرمزي الذين كتبوا عن الوصم بالانحراف وعن انعكاس الذات على مرآة المجتمع  ومن ذلك ما كتبه العالم ( تاننبوم Frank , Tannenbaum) عام 1938م وما كتبه العالم (ادون ليمرت  Edwin Lemert) عام 1948م وما كتبه العالم (تشارلس كولي C. H. Cooley)  خلال الفترة من 1902- 1930م ولمزيد من الاطلاع حول ما كتبه ( تاننبوم و لميرت أنظر: كاره مصطفى. مقدمة في الانحراف الاجتماعي. بيروت: معهد الإنماء العربي، 1985م. واظر بشأن ما كتبه كولي: (عمر، معن. نقد الفكر الاجتماعي المعاصر. بيروت : دار الآفاق الجديدة 1982م).
(**) يقصد (بكاريا) ما يسمى اليوم بالتوقيف على ذمة التحقيق أو انتظار موعد المحاكمة.
(*)   يقصد (بكاريا) بالأمور البعيدة: عواقب الجريمة وفي مقدمتها ألم العقوبة.
(*)   كان من أهم الانتقادات الموجهة للمدرسة التقليدية الأولى أنها تعيد الجريمة إلى الإرادة وحرية الاختيار، لكن الباحث يرى أن معنى هذه الجملة عند (بكاريا) يدحض هذا الزعم أو الانتقاد من أساسه، إذ من الواضح أن أراء (جيرمي بنثام) قد أفسدت كثيرا من رؤى ومبادئ (بكاريا) عندما تم تصنيفهما سويا كرائدين للمدرسة التقليدية الأولى ووجه النقد لكليهما في هذه النقطة بالذات في الوقت الذي كان ينبغي أن يوجه فيه النقد لـ (جيريمي بنثام). وهناك مسألة أخرى في هذه الصدد على جانب كبير من الأهمية وهي أن (بكاريا) سبق (روبرت ميرتون Robert Merton 1910-) حين قدم نظريته عن انفصال البناء الثقافي “Cultural Structure”  والذي يتكون من المعايير والقيم “Norms and Values  والأهداف الأساسية لأفراد المجتمع “ Main goals عن البناء الاجتماعي “Social Structure  الذي يحدد أنماط العلاقات السائدة في المجتمع “Types of relations” وطرق الوصول إلى الأهداف داخل كل مجتمع من المجتمعات”Means to achieving goals”  والتي صاغها خلال الأعوام من 1949-1968م، فهذا الانفصال جاء نتيجة لإحباط الأهداف، وهذا ما عناه (بكاريا)على وجه التحديد إذ ليس من الممكن أن يفسر معنى كلام (بكاريا)عن علاقة الإحباط بالجريمة تفسيرا صحيحا بغير هذا. ولمزيد من الاطلاع على تنظير (ميرتون) حول هذه النقطة والمقارنة بينه وبين فلسفة بكاريا هذه أنظر: (طالب، 2002م ص ص 104-111).
(**) من الواضح أن (بكاريا) يقصد بالخلل هنا الإحباط الشديد المؤدي إلى الجريمة، وأنه يقصد بالتعميم الظاهر  في جملة "كل شخص تقريبا" أن المحبط وصانع الإحباط يشتركان في صناعة عوامل الجريمة وزيادة شدتها.
(***) يتضح من سياق كلام (بكاريا) أنه يقصد بعبارة "توفير العقوبة الأشد" ادخارها لوقت الحاجة وعدم ابتذالها بكثرة الاستعمال، وليس المعنى الذي تبادر إلى أذهان بعض الباحثين بأنه يقصد استخدام العقوبة الأشد دائما وجعلها جاهزة للاستخدام في مواجهة كل الجرائم.
(****) من الواضح أن (بكاريا) يقصد بمسمى"الجرائم الحقيقية" أي فعل متفق على تجريمه في كل زمان ومكان، وبهذا يكون (بكاريا) قد سبق الباحث الإيطالي (روفائيلو غاروفالو Roffaelo Garofalo, 1852-1932) إلى هذه التسمية على الرغم من أن العلماء والباحثين ينظرون إلى (غاروفالو) على أنه أول من قسم الجرائم إلى جرائم حقيقية وجرائم مصطنعة. وفي نظرنا أن ما يحسب لغاروفالو هنا هو توسعه في شرح هذا التقسيم  أما السبق إلى هذا التقسيم  فيعود (لبكاريا) . ولمزيد من الإطلاع على شرح (غاروفالو) لهذا التقسيم، أنظر: (طالب، أحسن. 2002م، ص ص 28-30).
(*****) يشير (بكاريا) هنا إلى أن السلطة التنظيمية (التشريعية) ترتكب خطأ فادحا عندما توسع نطاق التجريم لتحمي مصالح خاصة لفئة من المنتفعين على حساب حرية باقي أفراد المجتمع، وهذه الحالة كانت سائدة في مجتمع (بكاريا) آنذك والتي استمرت إلى نهاية القرن الثامن عشر تقريبا.
(*) من الواضح أن بكاريا قصد بإدخاله لموضوع العلم في هذه الفقرة الحث على قبول العلوم الجديدة التي كانت الكنيسة والسلطة القروسطية تحاربها، فهو يريد توظيف هذه العلوم لتنظيم المجتمع والوقاية من الجريمة حتى تتخلص هذه الجوانب من سيطرة الفكر الخرافي.
(**) من المؤكد أن بكاريا يقصد جان جاك روسو (J.J. Rousseau, 1712-1778) فهو الفيلسوف الذي وصف العصر الإنساني البدائي أو المتوحش بأنه عصر الحرية الحقيقية وأنه يمثل العصر الذهبي للإنسان (Golden Age).
(***) حبذا لو أن بكاريا قال: [أمناء على التشريعات، تشريعا وقضاء وتنفيذا]، لأن استشراء الفساد في أي من هذه السلطات يعد مؤشرا على  وجود الفساد في السلطتين  الأخريين.
(**) هناك تداخل كبير بين هذه العمليات الثلاث فمن العلاج ما هو وقاية ومنه ما هو إعادة تأهيل، وفي كل الأحوال فإن العمليتين الثانية والثالثة (العلاج وإعادة التأهيل) تشكلان في مجملهما الجزء الرئيسي من برنامج الإصلاح.
(*) يوجد عدد من الأساليب الوقائية التي يمكن توظيفها في هذين المجالين، للاطلاع عليها انظر: طاب، أحسن (الوقاية من الجريمة2001م) .
(1) أنظر: سنن الترمذي لأبي عيسى محمد بن عيس بن سورة، رضي الله عنه. بيروت:دار إحياء التراث العربي،2000م، ص411.
(2) أنظر: الموطأ للإمام مالك بن أنس رضي الله عنه. بيروت: دار ابن حزم، ط3، 1996م، ص720.
(*) وكيل وزارة العدل للشؤون القضائية بالمملكة العربية السعودية.